على
نحو ما فعل الشاعر الراحل محمود درويش الذي سخر موهبته الشعرية
للتعبير عن كفاح ومعاناة الشعب الفلسطيني، استخدم شاعر عربي عظيم
آخر موهبة الشعر لتطبيب قلوب وعقول الناس من حوله ويوفر لهم البلسم
الشافي من متاعب الحياة اليومية ويعينهم على التعامل مع هذا العناء
اليومي الذي نسميه الحياة. ورغم أن شاعرنا هذا، خليل جبران، قد
فارقنا إلى الرفيق الأعلى منذ 77 عاماً إلى أن أعماله الأدبية
العظيمة أضفت عليه خلوداً عز نظيره.
كيف يمكن لشخص واحد أن يحوز كل هذا القدر من الحكمة؟ هذا هو السؤال
الذي يطرحه الملايين الذين ما يزالون يعشقون أدب أشهر فلاسفة وكتاب
وشعراء لبنان الذي لم يتزوج أو ينجب طوال حياته.
كيف تأتى لرجل بالكاد تلقى أي تعليم نظامي في صغره نتيجة الفقر أن
يمتلك زمام لغتين معقدتين مثل العربية والإنكليزية ويكتب بهما
ببراعة كبيرة للتعبير عن عمق أفكاره؟
واليوم لا يتفوق على إنتاج جبران في عدد القراء سوى كتابات الشاعر
الإنكليزي وليام شكسبير والفيلسوف الصيني لاو تسي، وهو ما يشير إلى
أن أفكار جبران تعطي قراءها معاني الحب والزواج والصداقة والحرية
والعمل والألم والفرح والحزن ويزرع هذه المعاني في عمق اللاوعي
لدينا.
والمدهش في نتاج جبران هو أن لا يتمتع بالجمال البنيوي فقط بل إن
له قدرة علاجية أيضاً وهو ما يوافق عليه الكثير من علماء النفس
المعاصرين. وعلى سبيل المثال، بدلاً من أن يردد فكرة ذوبان اثنين
ليصبحا شخصاً واحداً عند زواجهما، نجده يكتب في كتابه "النبي" ما
يلي:
"احرصوا على أن إبقاء فسحات في كيانكما الواحد،
واسمحوا لرياح السماوات أن تتراقص بينكما.
أحبا بعضكما البعض ولكن لا تربطا رابطة الحب؛
بل اجعلوا الأمر مثل بحر متحرك بين شاطئي روحيكما."
الفرح والحزن وفقاً لفكره هما جانبان متلازمان لكيان واحد، حيث
يقول:
"بعضكم يقول الفرح أكبر من الحزن، وآخرون يقولون لا، إن الحزن
أكبر.
ولكني أقول لكم إنهما لا ينفصمان عن بعضهما.
إنهما يأتيان معاً، وحينما يجلس أحدهما وحيداً معكم على منضدتكم،
فاعلموا أن الآخر إنما هو نائم في سريركم."
كما ينصحنا بألا ننزعج حين نفارق صديقاً:
"حينما تفارق صديقك، لا تحزن؛
لأن أكثر شيء أحببته فيه ربما يصبح أكثر وضوحاً في غيابه، على نحو
ما هو الجبل أكثر وضوحاً من السفح منه للمتسلق."
ويصف جبران الشر بأنه "طيبة معذبة بجوعها وعطشها" والجمال بأنه
"خلود يأكل نفسه في المرآة" و العطاء بأنه "الحياة التي تعطي
للحياة، فيما أنت الذي تعتبر نفسك معطياً مجرد شاهد". ويطلب منا أن
ننظر إلى بيوتنا على أنها "سارية" وليس باعتبارها "مرساة" وألا
"نسكن في قبور بناها الأموات للأحياء."
حري بكل منا أن يفسر كلمات جبران بطريقته الخاصة ووفقاً لتجاربه
ومعاييره الخاصة. بالنسبة لي، جبران يتحدث عن الحرية الشخصية وعن
الحاجة للتخلص من المفاهيم البالية وعن الأخطاء التي يرتكبها وهم
يسعون للبحث عن سلامهم الداخلي في الناس أو الأشياء من حولهم.
من أجمل المقتطفات بالنسبة لي هو ذلك الذي يتحدث عن الحدود التي
يجب الإبقاء عليها في العلاقة الزوجية:
"أعطيا قلبيكما لبعضكما ولكن ليس ليصبح في حفظ الآخر.
لأن يد الحياة وحدها يمكنها أن تحتوي قلبيكما.
قفا معاً، ولكن ليس قريباً جداً من بعضكما:
لأن أعمدة الهيكل تقف دون أن تكون ملتصقة مع بعضها،
وشجرة السنديان وشجرة السرو لا تنبت إحداهما في ظل الأخرى".
أشهر أعمال جبران هو كتابه "النبي" الذي ظل يتربع على قوائم أكثر
الكتب مبيعاً منذ نشره عام 1920 وحتى الآن وترجم إلى 29 لغة.
ولد جبران في لبنان باسم جبران خليل جبران بن ميخائيل بن سعد قبل
أن يغير معلم الإنكليزية في الولايات المتحدة الذي أدخله الكنيسة
الأنجليكانية بتغيير اسمه إلى خليل جبران. وفي سن 12 عاماً هاجر
جبران إلى نيويورك بصحبة أمه وشقيقتيه وأخيه من أمه.
وفيما بقي والده المدمن على الخمر في بلدة بشري شمال لبنان (وكانت
وقتها جزءاً من سوريا) عملت أمه في نيويورك بائعة متجولة من باب
إلى باب إلى أن تمكنت من توفير ما يكفي لفتح متجر.
في سن 15 عاماً عاد جبران إلى لبنان لمتابعة دراسته وأسس في مدرسته
مجلة أدبية للمدرسة واختير لنيل لقب "شاعر المدرسة". وقبل عودته
إلى بوسطن بأسابيع عام 1902، ماتت أخته بمرض السل وبعدها بسنة مات
أخوه في سن صغير ثم ماتت أمه بعد معاناة طويلة مع السرطان.
ربما تكون هذه الأحزان التي ألمت به في ريعان الشباب هي التي فتحت
عينيه على حقيقة عبث محاولة التشبث بأولئك الذين نحبهم.
خسر جبران معظم أفراد عائلته بفعل المرض، وكان أهم الأشخاص في
حياته، إلى جانب أخته ماريانا التي بقيت على قيد الحياة، هم ماري
إليزابيث هاسكل وهي مديرة مدرسة أمريكية تكبره بعشر سنوات والفنان
اللبناني يوسف حويك الذي كان زميل دراسة له في باريس قبل أن يصبح
صديقه.
كانت علاقة جبران مع ماري- التي يعتقد أنها كانت ذات أفكار
أفلاطونية عن الحب رغم كونها عاطفية- علاقة معقدة مثلما يتبين من
رسائلهما التي تم نشرها. وأصبحت ماري محررة لأعماله وراعية له تسهل
دراساته في باريس وتساعده على التركيز على عمله الفني والأدبي.
|
|
وفي 10 إبريل 1931 توفي جبران بمرض السل وتليف الكبد تاركاً مرسمه
ومحتوياته لماري وحقوق نشر كتبه لبلدته بشري. وطلب في وصيته أن
يدفن في وطنه لبنان.
وعنه كتبت الشاعرة الفلسطينية سلمى خضراء الجيوسي قائلة إن رؤية
جبران للعالم التي أصابها العقم نتيجة الأعراف والتقاليد الميتة
كانت قابلة للافتداء بالحب والنية الطيبة والعمل البناء.
بسبب هذه الروح التي تشع من أعماله ما تزال كلمات جبران تعطينا
الشجاعة والمشاعر الإيجابية وما تزال أفكاره على صلة بعالم اليوم
مثلما كانت حينما صبها من قلمه على الورق بذلك الجمال المبدع ليسعد
الأجيال المقبلة ويجعل بلاده فخورة به.
|