غير أن
الإسلام يسمح بتعدد الزوجات، وبالتالي فإن الفرصة للزواج بأرجوماند لم
تضع مع أن الأمير التزم فعلاً مع زوجته الأولى. وبمرور خمس سنين وبعد أن
قال منجمو البلاط بحساباتهم الفلكية إن الوقت مناسب لعقد القران، أقيم
الزفاف المنتظر أخيراً في بيت ميرزا غياث. كان حدثاً ضخماً حتى بالمعايير
الملكية. فما إن بدأ موكب الزفاف يشق طريقه نحو بيت أرجوماند، حتى أخذ
العازفون والراقصون والبهلوانيون يسلون الحشود. وارتدى رجال الدولة
أثوابهم الحريرية الموشاة بالذهب. العبيد يقذفون باللهب في الهواء
والعوام تحمل المشاعل وأصحاب الطرق الصوفية يرتلون أناشيدهم. حضر
إمبراطور الهند الزفاف شخصياً وقام بنفسه بشكل عقد من اللؤلؤ على عمامة
العروس. وحتى يظهر تقديره الكبير لزوجة ابنه أعطى جيهانغير اسم ممتاز محل
لأرجوماند والذي يعني "التي اختارها القصر"
بعد
الزواج كان الأمير وممتاز يقضيان معظم أوقاتهما معاً. وسرعان ما أصبحت
ممتاز محل مستشارة زوجها لشؤون السياسة وتقدم العون للأرامل واليتامى
والعائلات الفقيرة.
العلاقة
القوية التي جمعت شاه جيهان بممتاز محل جعلت الإثنين رفيقين لا يفترقان
داخل البلاد وخارجها وكانت مشورتها وحكمتها دوماً في شؤون السياسة ذات
فائدة عظيمة لشاه جيهان. ونجح الاثنان في تسيير أمور إدارة البلاد على
أحسن وجه حتى عام 1916. حتى ذلك العام كان الزوجان يحظيان بدعم
الإمبراطورة نور جيهان التي ضمن نفوذها في القصر حياة هانئة لهما. غير أن
شير أفغان خان ابنة نور جيهان من زوجها السابق تزوجت الأمير شهريار الأخ
الأصغر لشاه جيهان وابن جيهانغير الأصغر من زواج آخر. وهكذا تخلت
الإمبراطورة التي كانت دوماً صاحبة نفوذ في شؤون الدولة عن شاه جيهان
وبدأت تدافع عن صهرها لمساعدته في الفوز بالعرش بعد أبيه. وأخذت تستخدم
دهاءها لبث الشقاق بين جيهانغير وشاه جيهان.
ونجحت
في مسعاها فعلاً. واستطاعت أن تقنع الملك المطواع بتوبيخ ابنه العزيز
توبيخاً قاسياً. ورغم محاولات شاه جيهان المخلصة لاستعادة ثقة وحب أبيه
إلا أنها باءت بالفشل. وهكذا اتسعت الشقة بين الولد والوالد وبلغت مرحلة
ما عاد ينفع معها أي إصلاح. وأرسل جيهانغير وراء ابنه بقوه على رأسها
الأمير برويز ومحبت خان لإجباره على الانصياع.
في ذلك
الوقت كان شاه جيهان يعسكر في برهانبور باحثاً عن الأمان بمهربه. ثم أصبح
لاجئاً في قصر ملك ديكان ثم في البنغال. استمرت غضبة جيهانغير ثماني
سنوات، قضاها شاه جيهان كئيباً وقلقاً بدون استقرار. يقال إن الشدائد
امتحان الأصحاب. وفعلاً هذا ما حصل حيث هجره كل أصحابه وهربوا بعد أن
كانوا قد أقسموا له أن يحموه بسيوفهم. واستمرت حاله على هذا المنوال حتى
عام 1627 حين توفي والده الذي كان مريضاً بالربو.
جلس شاه
جيهان على العرش بعد حرب دموية على الوراثة. فحين موت جيهانغير لم يكن
لديه سوى ولدين بين الأحياء، شهريار وشاه جيهان. لكن شهريار، صهر نور
جيهان، كان مريضاً جداً حينها. غير أن هذا لم يمنع نور جيهان من السعي
ولو عبثاً لجعله يعتلى العرش. إلا أن شاه جيهان بمساعدة حماه استطاع أن
يحوز الملك.
احتفل
بتتويج شاه جيهان في كل أنحاء الإمبراطورية. وحضر الحفل رجال الأدب
والدين والأشراف وأهل الحكم. وعلى حسب العادة وزع شاه جيهان أثواب
التشريف على الحاضرين. وبعد حضوره مراسم تتويجه، أسرع شاه جيهان إلى جناح
النساء حيث كانت زوجته ممتاز محل، الإمبراطورة الجديدة، قد أقامت حفلاً
بهياً على شرفه. ووزعت صواني الجواهر والذهب على الفقراء بهذه المناسبة.
لم يكن لفرحة الزوجين حدود بعد المعاناة الطويلة التي عاشاها. وأهدى شاه
جيهان زوجته
مئتي ألف قطعة
من الذهب وستمئة ألف قطعة من الفضة وعزبة تغل مليون قطعة ذهبية سنوياً.
كما أضاف على ذلك منحة سنوية تبلغ مليوناً ونصف من الجواهر تعطى لها في
الذكرى السنوية الأولى للتتويج. وبعد ذلك بعامين زادها بمقدار مئتي ألف.
كان شاه
جيهان حاكماً طموحاً شأن جده أكبر. كما اختار الشرفاء ليكونوا حكاماً على
الأقاليم وقادة للجيش. ونبههم أن يكونوا عادلين في حكمهم للناس، حتى عرف
في التاريخ بلقب شاهنشاه العادل" أو الإمبراطور العادل. كما كان يعمل
لساعات طوال ويراقب كل تفاصيل إدارة الإمبراطورية. واستطاع أن يجعل
الدروب آمنة للمسافرين وعاقب اللصوص وقطاع الطريق بقسوة. كما طور الزراعة
والتجارة الخارجية. وجعلها عادة له أن يوزع عدة أضعاف وزنه ذهباً وفضةً
مرتين سنوياً على الفقراء. وكانت نتيجة كل ذلك أن تحسنت أحوال الرعية
وازدادت عوائد الدولة أضعافاً.
كان
تتويج شاه جيهان فاتحة لازدهار العمارة في أغرا ودلهي. وما تميزت به هذه
العمارة هو انتشار المباني الرخامية وهو ما دفع أحد الباحثين لوصف عهده
بعهد الرخام. كما كان راعياً عظيماً للفنون وللرسم والعمارة المغوليين
الذين جمعا التقاليد الفارسية والهندية ووصلا ذروتهما في عهده.
وفي عهد
زوجها أصبح لممتاز محل دوراً فاعلاً في إدارة الدولة. كما كان شاه جيهان
يستشيرها في كل قضايا الحكم المهمة، حتى إنه استأمنها على ختمه الملكي.
وفي تلك الأزمان، كان الختم الملكي شيئاً بالغ الأهمية عند الحكام
المسلمين. ويسجل التاريخ أن هؤلاء الحكام كانوا دوماً لا يعهدون بأختامهم
إلا لشخص ذي نزاهة وولاء لا شك فيهما أبداً. ذلك أن أي كتاب يمهر بهذا
الختم يصبح أمراً يستدعي الطاعة فوراً. لاحقاً نقلت هذه المسؤولية إلى
يمين الدولة والد ممتاز بناء على طلبها.
كانت
ممتاز محل امرأة رقيقة القلب بطبيعتها. ولهذا كان الضعفاء والبائسون
يجدون فيها إنساناً ينصت لمشاكلهم بتعاطف. وكان اليتامى والأرامل
والفقراء يحظون بأعطياتها التي أصبحت الوسيلة لتزويج بنات الفقراء زيجات
كريمة. كما أنقذت رحمتها حتى المجرمين الذين أعفت بعضهم من الإعدام
وأعادت آخرين إلى مناصبهم وحظوتهم التي خسروها بسبب سخط الملك عليهم.
هام شاه
جيهان بزوجته وبنى لها جناحاً ساحراً في القصر وأغدق عليها الهبات
والنعم. بل إنه كان يصطحبها معه في حملاته العسكرية. وفي إحدى هذه
الحملات عام 1630 خرجت ممتاز معه وهي حامل بابنهما الرابع عشر. وماتت
ممتاز محل في ربيع 1631 وهي تضع وليدها وكانت بنتاً. وعقب ذلك أمضى زوجها
كسير القلب العقدين التاليين تقريباً وهو يعمل على إنجاز حلمها ببناء صرح
يخلد ذكرى حبهما.
بعد موت
ممتاز حبس شاه جيهان نفسه ثمانية أيام في قصره ليخرج للناس بعدها رجلاً
آخر يختلف عن الذي كان عليه قبل أربع سنوات حينما اعتلى العرش. وبقي
لعامين وهو يعيش الحداد عليها. حين إحضار رفات ممتاز محل من برهانبور حيث
فارقت الحياة إلى أغرا عاصمة الإمبراطورية المغولية، وضع في حجرة دفن
مؤقتة تحت الأرض على ضفة نهر جومنا. أما ضريحها الدائم فقد وضعت أساساته
عام 1631 لينتهي بناؤه عام 1653.
|