الشندغة

5 | 139 العدد | الشندغة اعتقـاداً منـي بأنـه بإمـكان رجـل أعمـال مثله أن ينعـش الاقتصـاد الأمريكـي ويُقـدّم رؤية جديدة للسياسـة الأمريكية في الشـرق الأوسط. لكننـي سـرعان مـا أدركـت أنني كنت مخطئـاً، وكتبـت مقـالات عـدّة أناشـد فيها الناخبيـن الأمريكييـن بشـدّة عـدم انتخاب هـذا الرجـل الفاقِـد للمبـادئ والأخلاق والمثير للانقسـام. إلا أننـي، وعلـى النقيـض مـن الإعلام الأمريكـي الـذي شـنّ هجومـاً عنيفـاً عليه منـذ البدايـة، ولا يـزال يخـوض حرباً شـعواء ضـده، اختـرت أن أمنحـه فرصـة، لا سـيما وأن الولايـات المتحـدة هـي مـن البلـدان التي أ كنّ لهـا إعجابـاً شـديداً، كمـا أنـه بين أصدقائي المقرّبيـن عـددٌ كبيـر مـن الأمريكيين. أردت أن ينجـح ترامـب مـن أجـل الشـعب الأمريكـي، وكنـت آمـل بـأن يعمل على توطيـد أواصـر العلاقـة بيـن الولايـات المتحدة والعالـم العربي. غيـر أن نواقيـس الخطـر انطلقـت بقـوة عندمـا كشـف عـن نزعـة مـن المحاباة عبر منـح ابنتـه إيفانـكا تصريحـاً أمنيـاً ومنصباً فـي الجنـاح الغربـي فـي البيـت الأبيـض، قبل أن يُقـدِم علـى تعييـن زوجهـا جـارد كوشـنير، وهو متعهّـد عقـاري غيـر متمـرّس سياسـياً، كبير مستشـاريه ومبعوثاً إلى الشـرق الأوسـط. سـرعان ما اتّضح أنه أحاط نفسـه بأشـخاصسـيّئي السـمعة، على رأسـهم كبيـر المخططيـن الاسـتراتيجيين، سـتيف بانـون، الـذي لـم يعمّـر طويلاً فـي منصبه، والمعـروف بخطابـه النـاري المناهض للمسـلمين والمهاجريـن. وقـد أقـرّ مستشـاره للأمـن القومي، مايك فليـن، وهـو الآخـر كانـت ولايتـه قصيـرة لا بل أقصـر مـن ولايـة بانـون، بالكـذب على مكتب التحقيقـات الفيدرالـي (إف بـي آي) حـول الأحاديث التي أجراها مع السـفير الروسـي، ويتعـاون راهنـاً مـع التحقيـق الـذي يجريه روبـرت مويلـر فـي الاتهامـات حول تدخل روسـيا فـي الانتخابـات الأمريكيـة، كـي ينقذ نفسه. 14 فـي غضـون عـام ونيّـف، كان مصيـر مـن كبـار المسـؤولين فـي إدارتـه إما الإقالة وإما الانسـحاب من مناصبهم. وتسـعة من معاونيـه علـى الأقـل هـم حاليـاً موضع تقصّ علـى خلفيـة التعـاون مع موسـكو. تتوسّـع دائرة المارقين والفاسـدين سـريعاً. كان الشـعار الـذي رفعـه ترامـب "أمريكا أولاً" مثيـراً للقلـق، لأنـه يُنظَـر إلـى الولايات المتحـدة تقليديـاً بأنهـا قـوةٌ للخيـر فـي العالم. سـرعان ما أدركتُ تداعياته الأساسـية – ليسـت لباقـي العالـم أيـة أهمية. وقـد قـرن ترامـب القـول بالفعل ضارباً عـرض الحائـط بالمبـادئ الديمقراطية الليبراليـة للتجـارة الحـرة، فانسـحب من الشـرا كة عبـر الأطسـي وهـدّد بإلغـاء اتفاقية التجـارة الحـرة لأمريـكا الشـمالية (نافتا). لقـد أصيـب المجتمـع الدولـي بأكمله تقريبـاً، بالصدمـة وهالـه إقـدام ترامـب على التخلّـي عـن اتفـاق باريـس حول المناخ، ومنـذ ذلـك الوقـت، أظهرت المراسـيم التنفيذيـة التـي أصدرهـا أنـه لا يكتـرث للحفـاظ علـى بيئـة سـليمة وصـون الحيـاة البر ية. تصاعـدت حـدّة الانتقـادات لـه فـي الدول العربيـة المواليـة للغـرب، هـذا كان قبـل ز يارتـه إلـى السـعودية التـي حقّقـت نجاحـاً هائـ ً، والتـي ناقـش خلالهـا مـع خادم الحرميـن الشـر يفين الملـك سـلمان بـن عبـد العز يـز وغيـره مـن القـادة العـرب سـبل مكافحـة الإرهـاب فـي أجـواء احتفاليـة سـادَها الـودّ والتقارب. علـى ضـوء الانتقـادات التـي وجّههـا ترامـب إلـى قطـر علـى خلفيـة تمويلهـا للإرهـاب، والدعـم الـذي أبـداه للعزل السياسـي والاقتصـادي الـذي فرضتـه عليهـا الرباعيـة بقيـادة السـعودية – مـع اشـتراط مطلبـاً لإنهـاء 13 موافقـة أميـر قطـر علـى العـزل – تكـوّن لـدي اقتنـاعٌ بأننـا نسـتطيع التعويـل عليـه كحليـف قـوي علـى الرغـم مـن كل عيوبـه. كان ذلـك قبـل أن يُغـدق وز يـر خارجيتـه ر يكـس تيلرسـون المديـح علـى قطـر مثنيـاً علـى المعركـة التـي تخوضهـا ضـد الإرهـاب، فيمـا انتقـد السـعودية والإمـارات والبحر يـن ومصـر لمـا وصفـه بـ"الحصـار" الـذي تفرضـه علـى قطر. فـي نظـري، هنـاك ثـ ث نقـاط تُسـجّل ضد الرئيـس الأمر يكـي: النقطـة الأولـى: فـي الملـف الإيرانـي، أخفـق ترامـب فـي الوفـاء بالوعـد الـذي قطعـه خـ ل حملتـه الانتخابيـة بسـحب بـ ده مـن الاتفـاق البائـس مـع إيـران، مكتفيـاً بعـدم المصادقـة علـى الامتثـال الإيرانـي لبنـود الاتفـاق. وهـو لـم يحـرّك سـاكناً لوقـف الأعمـال العدوانيـة التـي تقـوم بهـا إيـران ضـد جيرانهـا. النقطـة الثانيـة: إبـان الهجـوم العسـكري الـذي شـنّته الولايـات المتحـدة لطـرد تنظيـم "داعـش" مـن الرقـة، يبـدو أن ترامـب سـلّم سـور يا من جديد إلى نظام بشـار الأسـد المدعـوم مـن إيـران وإلـى روسـيا حاميتـه. النقطـة الثالثـة: لقـد خـان ترامـب الشـعب الفلسـطيني، ونكـث بالالتزامـات الأمر يكيـة بموجـب اتفاقيـات أوسـلو، وداس علـى قـرارات مجلـس الأمـن الدولـي التي صـادق عليهـا أسـ فه، والتـي تنـص علـى أنـه لا يمكـن تحديـد وضـع القـدس إلا مـن خـ ل اتفاقيـة الحـل النهائـي. مـع فائـق احترامـي للشـعب الأمر يكـي وأمّتهـم الرائعـة، لقـد أخطـأ الناخبـون فـي الاختيـار هـذه المـرة. لا يفكّـر دونالـد ترامـب مليـا قبـل أن يتكلّـم ولا يصغـي إلـى النصائـح. تكمـن الخطـورة فـي أن الأنـا المضخّمـة لديـه قـد تتسـبب بانـدلاع حر يـق نـووي لا يطـال الولايـات المتحـدة وحسـب إنمـا أيضـاً الجـزء الأكبـر مـن الكـرة الأرضيـة. هـو ليـس مـن هـواة فـن إبـرام الاتفاقـات، بل علـى العكـس، إنـه خبيـر متمـرّس فـي فـن الاستقواء. لعـل أحـدث مظاهـر الخيانـة لديـه، اسـتناداً إلـى مـا نُشِـر فـي صحيفـة "الواشـنطن بوسـت" يـوم الجمعـة، يتجلّـى مـن خـ ل الرسـالة التـي سـلّمها تيلرسـون إلـى السـعوديين. لطالمـا كانـت أمر يـكا شـر يكاً كامـً فـي الجهـود التـي بذلهـا التحالـف السـعودي لإلحـاق الهز يمـة بالحوثييـن المدعوميـن مـن إيـران، وبسـط سـلطة الحكومـة الشـرعية مـن جديـد فـي اليمـن. أمـا الآن فيبـدو أن الولايـات المتحـدة تتبنّـى "موقفـاً أ كثـر تشـدّداً" حيـال "الـدور" السـعودي فـي ذلـك البلـد، عبـر حضّهـا التحالـف الـذي تقـوده السـعودية علـى "رفـع الحصـار بالكامـل"، وشـنّ حملتـه العسـكر ية بطر يقـة مدروسـة أ كثـر. لا بـد مـن أنـه لهـذا الـكلام وقـع الألحـان العذبـة المستسـاغة علـى مسـامع الملالـي الإيرانييـن والرعـاع الحوثييـن البدائييـن الذيـن قتلـوا الرئيـس اليمنـي السـابق علـي عبـدالله صالـح. لذلـك أناشـد قـادة السـعودية والإمـارات والبحر يـن ومصـر والأردن اعتمـاد سياسـات مسـتقلّة ومتحـررة مـن الضوابـط أو الوعـود الأمر يكيـة طالمـا أن ترامـب فـي البيـت الأبيـض. لا يمكننـا الاعتمـاد علـى شـخص جامـح وغيـر متوقّـع للدفـاع عـن مصالحنـا، فمـا بالكـم بحمايتنـا مـن المعتديـن، لا سـيما وأنـه يعمـد باسـتمرار إلـى تمز يـق الاتفاقـات والإخـ ل بهـا. يجـب أن نـرصّ صفوفنـا كـي نثبـت قوّتنـا ونصـون منطقتنـا التـي عانـت الأمر ّيـن مـن التدخـ ت الخارجيـة، وينبغـي أن نُعبّـر عـن اسـتيائنا عبـر التعـاون مـع قـوى عالميـة أخـرى فيمـا نعمـد إلـى تنويـع الجهـات التـي تزوّدنـا بالطائـرات والأسـلحة والمـواد التكنولوجيـة إلـخ. إذا كان ترامـب مصـرّاً علـى إبقـاء الولايـات المتحـدة فـي فقّاعـةٍ واحـدة مـع إسـرائيل، فـ يمكنـه أن يطلـب الـولاء مـن الـدول الأخـرى. لقـد خلـق أجـواءً مـن المنافسـة الشـديدة حيـث ينهـش الجميـع بعضهـم بعضـاً ويسـعى كل بلـد إلـى إنقـاذ نفسـه ولـو علـى حسـاب الآخر يـن. فـي غضـون ذلـك، ينبغـي علينـا نحن الإماراتييـن أن نعمـل عـن كثـب مـع أصدقائنا الموثوقيـن لإصـ ح الأضـرار التي تسـبّبت بهـا حماقـة ترامـب، كـي تبقـى القدس على الـدوام عاصمـة فلسـطين فـي قلوبنـا – وعلـى أرض الواقـع بـإذن الله تعالـى.

RkJQdWJsaXNoZXIy NDU3MzA=