تحوّل الاقتصاد البرازيلي من الطفرة إلى شبه الانهيار، فالنمو الذي كان يبلغ 7.5 في المئة قبل عامَين أصبح الآن صفراً. على الرغم من التحدّيات والصعوبات، تبدو الآفاق مشرقة بالنسبة إلى الاقتصاد الأكبر في أمريكا اللاتينية، كما يشرح فابيو ساكيافيلاني في الجزء الثاني من سلسلة المقالات التي ننشرها عن اقتصادات دول الـ BRIC (البرازيل وروسيا والهند والصين)
منذ أواخر الستينيات وعلى مدى ثلاثة عقود، عانت أمريكا اللاتينية من التعثّر في اقتصاداتها، ومن النزاعات الاجتماعية والفقر الشديد وحرب العصابات والحكم العسكري، وسادها مع استثناءات قليلة (كوستا ريكا، التشيلي) شعورٌ عام باليأس والعجز. ومع اندلاع أزمة الديون الحادّة في الثمانينيات (بفعل ودائع البترودولارات التي تكدّست في المصارف الدولية)، بدا أن المشاكل تتفاقم وصولاً إلى نقطة اللاعودة. لكن في منتصف التسعينيات، ارتقى جيلاً جديداً من القادة السياسيين ورجال الأعمال سلّم السلطة وبذلوا مجهوداً دؤوباً أدّى إلى انقلاب في السلوك والسياسات.
الإصلاحات الملائمة للسوق
كانت البرازيل، الاقتصاد الأكبر في أمريكا اللاتينية، المعقل الأساسي لهذا التحوّل. بعد انتهاء الحكم العسكري، أمضت البلاد سنوات عدّة في إعادة تعريف إطارها المؤسّسي، لكنها أقرّت في نهاية المطاف دستوراً جديداً، ثم في عهد الرئيس فرناندو إنريكي كاردوسو بين 1995 و2002، شرعت البرازيل في تطبيق سلسلة من الإصلاحات الملائمة للسوق (والتي بدأت تؤتي ثمرها في نهاية التسعينيات).
عندما فاز بطل اليسار المخضرم، لويس إيناسيو دا سيلفا (المعروف بـ"لولا")، بالرئاسة، خشي كثرٌ أن تغرق البلاد في الشعبوية والديماغوجية. لكن على النقيض تماماً، تبيّن أن المسار الاقتصادي المطّرد الذي أطلقه أسلافه والتكنوقراط المحيطون بهم متين، وتمّت المحافظة عليه إلى حد كبير. وتجلّت ميول لولا اليسارية في شكل خاص في بعض البرامج الاجتماعية ولا سيما برنامج Bolsa Familia (المخصّصات العائلية) الذي انتشل ملايين العائلات من الفقر المدقع عبر منحهم تحويلات مالية في مقابل إبقاء أولادهم في المدارس والتقيّد بجداول التطعيم الإلزامي.
وتزامنت رئاسة لولا التي امتدّت لولايتَين، مع فترة من النمو الشديد الذي لم تشهد له البلاد مثيلاً منذ الثلاثينيات عندما كانت البرازيل (وباقي أمريكا الجنوبية) مقصداً لملايين المهاجرين الأوروبيين والآسيويين. وأدّت الطفرة في السلع الأساسية بتحفيز من الطلب القوي من الصين وبلدان ناشئة أخرى، دوراً أساسياً، بيد أن الاستقرار النقدي الذي تحقّق بفعل العديد من برامج صندوق النقد الدولي، إلى جانب الانضباط المالي، كان له الفضل في عدم هدر المكاسب على دعم التطفّل والمحسوبيات.
حقبة جديدة
الشعبية التي تمتّع بها لولا مهّدت الطريق لوصول السيدة المقرّبة منه، ديلما روسيف، إلى الرئاسة لتصبح بذلك الرئيسة السادسة والثلاثين للبرازيل (وهي أوّل امرأة تشغل هذا المنصب). تسلّمت روسيف الرئاسة في خضم الأزمة العالمية. لقد عانى الاقتصاد البرازيلي من الشلل التام في منتصف العام 2011 بسبب الارتفاع الشديد في قيمة الريال البرازيلي. والحقيقة كان هناك عاملان خارجيان وراء تحقيق هذه النتيجة: الشروط التجارية المؤاتية ولا سيما تجاه الصين، وتداعيات السياسات النقدية التوسّعية جداً في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات الناضجة.
نتيجةً لذلك، وفي حين كان منتجو السلع الأساسية يزدهرون، كان قطاع التصنيع يتعثّر ويفقد إرباحيّته بسبب الارتفاع في قيمة الريال، مما أدّى إلى تعالي الأصوات المندِّدة بتراجع القطاع الصناعي. ومن أجل معالجة التباطؤ، عمدت السلطات إلى خفض أسعار الفوائد (على الرغم من ارتفاع معدلات التضخّم)، وتشدّدت في فرض قيود على تدفّق رأس المال إلى الداخل، وتدخّلت في سوق العملات الأجنبية في محاولة لخفض قيمة الريال البرازيلي. فضلاً عن ذلك، دعمت قطاع التصنيع من خلال الفوائد المالية على ديونها المتراكمة.
غالب الظن أن الوثبة المتواضعة سوف تقود إلى معدّل نمو ضعيف هذه السنة يتراوح من 2 إلى 2.5 في المئة (تتوقّع الحكومة نمواً بنسبة 4.5 في المئة). وهو ليس بالإنجاز الصغير نظراً إلى المناخ الاقتصادي الراهن على الساحة العالمية، إلا أنه يبقى دون ما تحتاج إليه البرازيل ودون إمكاناتها أيضاً. لا شك في أن الطريق نحو الأمام سيكون شاقّاً: فنمو القوة العاملة في البرازيل سينحسر في حين أن الإنفاق على التقاعد سيزداد. لا يمكن أن يستمرّ الائتمان الداخلي الذي يولّد طفرة استهلاكية (البرازيليون أقل توفيراً بكثير من الصينيين أو الهنود)، على وتيرته الحالية إذ إن الأسر بدأت تشعر بعبء الفوائد على ديونها المتراكمة.
الضعف الراهن ناجم في الجوهر عن إحجام لولا وخليفته عن تطبيق الإصلاحات البنيوية الضرورية. يجب أن تبدأ الحكومة بمواجهة الركود في نمو الإنتاجية. وعليها أن تقرّ إصلاحات مالية لزيادة المدّخرات العامة وتبسيط القانون الضريبي لا سيما وأن البرازيل تحتلّ المرتبة 150 بين 183 بلداً في تصنيف البنك الدولي في مجال تعقيدات القانون الضريبي.
لا تختلف لائحة الإجراءات الواجب اتّخاذها لتعزيز الإنتاجية عن تلك التي يقترحها مؤيّدو السوق الحرّة في البلدان الناشئة الأخرى: تحسينات في البنى التحتية وقطاع التعليم، والحدّ من البيروقراطية، وتحقيق المرونة في سوق العمل وجرعة أقوى من المنافسة في أسواق المنتجات.
التحدّي الأساسي على الجبهة المالية هو تقوية النظام المالي انطلاقاً من ثلاثة مبادئ:
-
الحدّ من نسبة الإيرادات المخصّصة التي
-
تصل إلى 90 في المئة تقريباً.
-
الحد من نمو الإنفاق الأساسي الحالي.
-
خفض العبء الضريبي نظراً إلى أن معدّل الضريبة في البرازيل ارتفع من 27 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 1998 إلى 34 في المئة في العام 2010، فتحوّل عائقاً أمام النمو.
الطريق نحو الأمام
هل ستتمكّن البلاد من رفع مستوى التحدّي؟ يتوقّف الكثير على المهارات السياسية للرئيسة روسيف التي تتمتّع بمستوى استثنائي من التأييد في سنتها الثانية في الحكم. يُدرك صانعو السياسات الكبار تماماً المهمّة الملقاة على عاتقهم، وقد دفعوا فعلاً باتّجاه إصلاح أساسي في الضمان الاجتماعي لعمّال القطاع العام عبر الانتقال من نظام دفع الاستحقاقات أولاً بأول إلى نظام قائم على التمويل الفردي.
لكن خلافاً لحال الطوارئ التي تواجهها بعض بلدان منطقة اليورو، تملك البرازيل هامشاً للمناورة. فالبطالة منخفضة، وقد سجّلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة رقماً قياسياً مع 67 مليار دولار أمريكي (246 مليار درهم إماراتي) في العام 2011. الزراعة عالية الإنتاجية، كما أن الحقول النفطية الجديدة الشاسعة تشكّل عاملاً مفصلياً للصمود والاستمرار في المستقبل.\
علاوةً على ذلك، تختلف البرازيل عن البلدان الثلاثة الأخرى في مجموعة BRIC في مجالَين اثنين: سيادة القانون الراسخة إلى حد ما، ونظام الرعاية الاجتماعية الذي يحدّ من وطأة الأشكال الشديدة من عدم المساواة. وفوق كل شيء، تكمن قوّة البرازيل في ديموقراطيةٍ تعزّزت على مرّ 25 عاماً وحقّقت استقراراً لم يتأثّر على الإطلاق بفعل انتقال السلطة من اليمين إلى اليسار.
إذاً على الرغم من التحدّيات، آفاق البرازيل إيجابية إلى حد ما - إلا إذا انهار التوسّع الصيني في العام 2013 أو انهارت عملة اليورو - مع استعادة معدّلات نمو تفوق الأربعة في المئة في العام 2013.