الجمعة، 19 أبريل 2024

التدخلات الخارجية تزيد من تفاقم المشاكل العربية

بقلم ليندا س. هيرد

© Shutterstock

مع‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الاستثناءآت،‭ ‬ولّدت‭ ‬التدخلات‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬انقسامات‭ ‬وكراهية‭ ‬ونزاعات‭ ‬في‭ ‬المنطقة

لقد تعهّد‭ ‬الرئيس‭ ‬باراك‭ ‬أوباما‭ ‬بتحويل‭ ‬الأنظار‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬بعيداً‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬وتركيز‭ ‬مصالح‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬آسيا‭-‬المحيط‭ ‬الهادئ‭. ‬وعلى‭ ‬غرار‭ ‬كل‭ ‬المقاربات‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬تقريباً،‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬فاترة‭ ‬جداً‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬جهوده‭ ‬تحوّلت‭ ‬هباء‭ ‬منثوراً‭.‬

تستعرض‭ ‬بيجينغ‭ ‬عضلاتها‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬جنوب‭ ‬الصين؛‭ ‬وتتباهى‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬بقدراتها‭ ‬المتطورة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬فيما‭ ‬يتعزّز‭ ‬النفوذ‭ ‬الروسي‭ ‬والإيراني‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجموعات‭ ‬الإرهابية‭.‬

غالباً‭ ‬ما‭ ‬يُتَّهم‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬المنتهية‭ ‬ولايته‭ ‬بأنه‭ ‬يقود‭ ‬من‭ ‬الخلف‭. ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬لقد‭ ‬جرّ‭ ‬بلاده‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬تبيّن‭ ‬لاحقاً‭ ‬أنها‭ ‬تؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬طرق‭ ‬مسدودة‭. ‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الأسى‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬مئات‭ ‬المدنيين‭ ‬الأفغان‭ ‬والباكستانيين‭ ‬قضوا‭ ‬نحبهم‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬بسبب‭ ‬الهجمات‭ ‬التي‭ ‬شنّتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بالطائرات‭ ‬غير‭ ‬المأهولة،‭ ‬والأسوأ‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لقي‭ ‬زهاء‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭ ‬وطفل‭ ‬سوري‭ ‬بريء‭ ‬مصرعهم،‭ ‬وهُجِّر‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬منازلهم‭ ‬أو‭ ‬تحوّلوا‭ ‬إلى‭ ‬لاجئين‭.‬

ربما‭ ‬خُيِّل‭ ‬إلى‭ ‬أوباما‭ ‬أن‭ ‬الحملة‭ ‬الجوية‭ ‬كافية‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬النصائح‭ ‬التي‭ ‬أسديت‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬القصف‭ ‬الجوي‭ ‬لن‭ ‬ينجح‭ ‬لوحده‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬للنزاع،‭ ‬أو‭ ‬غالب‭ ‬الظن‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مستعداً‭ ‬لإرسال‭ ‬أعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬الأمريكيين‭ ‬لخوض‭ ‬حرب‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬موافقة‭ ‬الكونغرس‭. ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬اتهامه‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يحرّك‭ ‬ساكناً،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬يمكنه‭ ‬فعله،‭ ‬فدور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬شرطي‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬تعرّض‭ ‬إذاً‭ ‬لانتكاسة‭ ‬خطيرة‭.‬

ثمة‭ ‬أدلّة‭ ‬تظهر‭ ‬أن‭ ‬إدارة‭ ‬أوباما،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬برئاسة‭ ‬كلينتون،‭ ‬نشطت‭ ‬خلف‭ ‬الكواليس‭ ‬في‭ ‬تشجيع‭ ‬ثورات‭ "‬الربيع‭ ‬العربي‭" ‬التي‭ ‬أشعلت‭ ‬نزاعاً‭ ‬دموياً‭ ‬في‭ ‬#سوريا،‭ ‬وأطاحت‭ ‬أنظمة‭ ‬علمانية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬#مصر‭ ‬وتونس‭ ‬وليبيا‭ ‬واليمن‭ ‬حيث‭ ‬تدفع‭ ‬الشعوب‭ ‬اليوم‭ ‬الثمن‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬جراء‭ ‬انعدام‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي،‭ ‬أو‭ ‬الهجمات‭ ‬الإرهابية،‭ ‬أو‭ ‬المحَن‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬أو‭ ‬النزاعات‭ ‬الواسعة‭ ‬النطاق‭.‬

لقد‭ ‬أقرّ‭ ‬الرئيس‭ ‬أوباما‭ ‬بأن‭ ‬الخطأ‭ ‬الأسوأ‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبه‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬كان‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬#ليبيا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بلداً‭ ‬غنياً‭ ‬بالنفط‭ ‬ينعم‭ ‬بالاستقرار‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬وكان‭ ‬المواطنون‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالاكتفاء‭ ‬ولا‭ ‬ينقصهم‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬لقد‭ ‬أسفر‭ ‬التدخل‭ ‬الأمريكي‭/‬الفرنسي‭/‬البريطاني‭ ‬عن‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬القذافي،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أبدى‭ ‬جهوزيته‭ ‬للانضمام‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬كنف‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬عبر‭ ‬تفكيك‭ ‬برنامجه‭ ‬للأسلحة‭ ‬النووية‭. ‬فوجّه‭ ‬ذلك‭ ‬رسالةً‭ ‬إلى‭ ‬قادة‭ ‬الدول‭ ‬المارقة‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬رئيس‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية،‭ ‬كيم‭ ‬جونغ‭-‬أون،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬التخلّي‭ ‬عن‭ ‬قدراتهم‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الردع‭ ‬قد‭ ‬يدفع‭ ‬بهم‭ ‬نحو‭ ‬ملاقاة‭ ‬مصير‭ ‬مماثل،‭ ‬أي‭ ‬السقوط‭ ‬والهلاك‭.‬

في‭ ‬غياب‭ ‬خطة‭ ‬مدروسة‭ ‬حول‭ ‬الخطوات‭ ‬المقبلة،‭ ‬سُلِّمت‭ ‬#ليبيا‭ ‬إلى‭ ‬ميليشيات‭ ‬مسلّحة‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأطياف‭ ‬والانتماءات،‭ ‬وإلى‭ ‬المجموعات‭ ‬الإرهابية‭ ‬والسياسيين‭ ‬المتناحرين‭. ‬واليوم‭ ‬تدير‭ ‬البلاد‭ ‬حكومةٌ‭ ‬فرضتها‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬ويسيطر‭ ‬عليها‭ ‬الإسلاميون‭ ‬المتشدّدون،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬أي‭ ‬سلطة‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬العاصمة،‭ ‬ولا‭ ‬تحظى‭ ‬بالاعتراف‭ ‬من‭ ‬البرلمان‭ ‬الشرعي‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬أوباما‭ ‬نادمٌ‭ ‬جداً‭ ‬على‭ ‬مغامرته‭ ‬في‭ ‬#ليبيا،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬كثراً‭ ‬يعتبرون‭ ‬أن‭ ‬الوصمة‭ ‬الأسوأ‭ ‬في‭ ‬سجله‭ ‬هي‭ ‬انكفاؤه‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬إرهابيي‭ "‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭" ‬لانتزاع‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬مدن‭  ‬كبرى‭ ‬ومنشآت‭ ‬نفطية‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬قبل‭ ‬توسّعهم‭ ‬نحو‭ ‬#سوريا،‭ ‬وإنشائهم‭ ‬خلافةً‭ ‬عاصمتها‭ ‬مدينة‭ ‬الرقة‭ ‬السورية‭.‬

لقد‭ ‬خرج‭ ‬تنظيم‭ "‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭" ‬من‭ ‬رماد‭ ‬الاجتياح‭ ‬الذي‭ ‬شنّه‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش‭ ‬والاحتلال‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬على‭ ‬العراق،‭ ‬وسوء‭ ‬إدارته‭ ‬لذلك‭ ‬البلد،‭ ‬فألقى‭ ‬بهذه‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية‭ ‬المتوغّلة‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬المرشد‭ ‬الأعلى‭ ‬الإيراني‭ ‬والميليشيات‭ ‬الشيعية‭ ‬العراقية‭ ‬التي‭ ‬تتصرّف‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬أوامر‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬الخاضعة‭ ‬للسيطرة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬يفرضها‭ ‬عليها‭ ‬المرشد‭ ‬الأعلى‭.‬

وقد‭ ‬أضاف‭ ‬أوباما‭ ‬إلى‭ ‬الخطأ‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبه‭ ‬بوش‭ ‬وزاد‭ ‬الطين‭ ‬بلة‭ ‬عبر‭ ‬إبرامه‭ ‬اتفاقاً‭ ‬نووياً‭ ‬مع‭ ‬إيران،‭ ‬فامتلأت‭ ‬صناديق‭ ‬الملالي‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬تُقدَّر‭ ‬قيمتها‭ ‬بـ150‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي،‭ ‬حتى‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬مسؤولون‭ ‬إيرانيون‭ ‬كبار‭ ‬يتباهون‭ ‬بهيمنة‭ ‬بلادهم‭ ‬على‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭.‬

جرى‭ ‬التفاوض‭ ‬على‭ ‬الاتفاق‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهر‭ ‬الحلفاء‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬أي‭ ‬إسرائيل‭ ‬ودول‭ ‬مجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي،‭ ‬وأُبرِم‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اعتراضاتهم‭ ‬الشديدة‭. ‬حاول‭ ‬أوباما‭ ‬حمل‭ ‬قادة‭ ‬الخليج‭ ‬على‭ ‬تليين‭ ‬مواقفهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عرض‭ ‬صفقات‭ ‬أسلحة‭ ‬عليهم‭. ‬وقد‭ ‬جرى‭ ‬استرضاء‭ ‬إسرائيل‭ ‬عبر‭ ‬منحها‭ ‬مساعدات‭ ‬عسكرية‭ ‬إضافية‭ ‬بقيمة‭ ‬38‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬موزَّعة‭ ‬على‭ ‬عشر‭ ‬سنوات؛‭ ‬وهي‭ ‬المساعدة‭ ‬الأكبر‭ ‬التي‭ ‬تُقدَّم‭ ‬إلى‭ ‬حكومة‭ ‬أجنبية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

يستحيل‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ليبدو‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬تُرِك‭ ‬ليسير‭ ‬على‭ ‬وتيرته‭ ‬الخاصة‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬استخدامه‭ ‬رقعة‭ "‬مونوبولي‭" ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬قوى‭ ‬أجنبية‭ ‬تسعى‭ ‬للاستيلاء‭ ‬على‭ ‬موارده‭ ‬الطبيعية‭ ‬أو‭ ‬تستعرض‭ ‬عضلاتها‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توسيع‭ ‬دوائر‭ ‬نفوذها‭.‬

ما‭ ‬نحن‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬منه‭ ‬أنه‭ ‬خلال‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للإسلام‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬–‭ ‬كانت‭ ‬الجامعات‭ ‬العربية‭ ‬الأعرق‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬لقد‭ ‬أرسى‭ ‬فقهاء‭ ‬قانونيون‭ ‬وفلاسفة‭ ‬وعلماء‭ ‬رياضيات‭ ‬وأطباء‭ ‬وأساتذة‭ ‬ومهندسون‭ ‬معماريون‭ ‬ورسّامو‭ ‬خرائط‭ ‬عرب،‭ ‬أسس‭ ‬المعارف‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬كانت‭ ‬معظم‭ ‬المدن‭ ‬الأوروبية‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الجهل‭ ‬والتخلّف‭.‬

بدأت‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬المستنيرة‭ ‬بالانحسار‭ ‬بعد‭ ‬الغزو‭ ‬المنغولي‭ ‬الذي‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬بغداد،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬معقلاً‭ ‬لبيت‭ ‬الحكمة،‭ ‬واندلاع‭ ‬حروب‭ ‬ضد‭ ‬الجيوش‭ ‬الصليبية‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وظهور‭ ‬الغزاة‭ ‬العثمانيين‭.‬

سيطرت‭ ‬الأمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬على‭ ‬18‭ ‬بلداً‭ ‬عربياً‭ ‬واستنفذت‭ ‬مقدّراتها،‭ ‬وتوسّعت‭ ‬نحو‭ ‬أراضٍ‭ ‬شاسعة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬عزّها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتفكّك‭ ‬وتنهار‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬القوى‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬عندما‭ ‬جرى‭ ‬تقسيم‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية‭ ‬اعتباطياً‭ ‬بين‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬خدمةً‭ ‬لمصالح‭ ‬تلك‭ ‬البلدان،‭ ‬فانشطرت‭ ‬القبائل‭ ‬والمذاهب‭ ‬الدينية‭ ‬والمجتمعات‭ ‬المحلية‭.‬

أعيد‭ ‬رسم‭ ‬خريطة‭ ‬المنطقة‭. ‬فُصِل‭ ‬الأكراد‭ ‬والدروز‭ ‬والسنّة‭ ‬والشيعة‭ ‬والمسيحيون‭ ‬عن‭ ‬إخوانهم،‭ ‬وعُزِلوا‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬جديدة‭. ‬فشكّل‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬عاملاً‭ ‬مؤجِّجاً‭ ‬للنزاعات‭ ‬المذهبية،‭ ‬وكان‭ ‬بمثابة‭ ‬بطاقة‭ ‬دعوة‭ ‬موجّهة‭ ‬إلى‭ ‬القادة‭ ‬السلطويين‭ ‬ليحكموا‭ ‬بقبضة‭ ‬من‭ ‬حديد‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬البقاء‭ ‬أصبح‭ ‬الهمّ‭ ‬الأساسي،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬مجتمع‭ ‬مستنير‭ ‬ومثقّف‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬الأولويات‭.‬

وقد‭ ‬شكّل‭ ‬قيام‭ ‬البريطانيين‭ ‬بإنشاء‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬حظيت‭ ‬بموافقة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬إحدى‭ ‬الشرارات‭ ‬التي‭ ‬فجّرت‭ ‬الوضع‭ ‬المتأزم‭. ‬رحّب‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬بالوافدين‭ ‬الجدد‭ ‬وكانوا‭ ‬مستعدّين‭ ‬للعمل‭ ‬إلى‭ ‬جانبهم،‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬حرمانهم‭ ‬من‭ ‬أرزاقهم،‭ ‬وطردهم‭ ‬من‭ ‬أراضيهم‭ ‬ومن‭ ‬منازلهم‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬زمرٍ‭ ‬من‭ ‬الميليشيات‭ ‬اليهودية‭ ‬المسلّحة‭. ‬دُمِّرت‭ ‬قرى‭ ‬بكاملها‭ ‬فاختفت‭ ‬عن‭ ‬الخريطة‭ ‬وكأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬وجود‭ ‬قط‭. ‬وانسحبت‭ ‬القوات‭ ‬البريطانية‭ ‬تاركةً‭ ‬وراءها‭ ‬حمام‭ ‬دماء‭. ‬هذه‭ ‬القروح‭ ‬المتقيّحة‭ ‬التي‭ ‬أشعلت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬والانتفاضات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬أصبحت‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬استعصاء‭ ‬على‭ ‬الشفاء‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭.‬

من‭ ‬الصعوبة‭ ‬بمكان‭ ‬استيعاب‭ ‬الأمر،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬وكالة‭ ‬الاستخبارات‭ ‬المركزية‭ ‬الأمريكية‭ (‬سي‭ ‬آي‭ ‬أيه‭) ‬أقرّت‭ ‬بتأديتها‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬الانقلاب‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬عام‭ ‬1953‭ ‬إلى‭ ‬إطاحة‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬للوزراء‭ ‬منتخَب‭ ‬ديموقراطياً‭ ‬في‭ ‬إيران‭. ‬لماذا؟‭ ‬لأنه‭ ‬وجّه‭ ‬انتقادات‭ ‬لاذعة‭ ‬للتدخل‭ ‬الأجنبي؛‭ ‬وأعلن‭ ‬بوضوح‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬دمية‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬أحد‭. ‬من‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬واشنطن‭ ‬ولندن‭ ‬وباريس‭ ‬تواطأت‭ ‬ضد‭ ‬الشاه‭ ‬عندما‭ ‬أصبح‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬حجمه،‭ ‬وعملت‭ ‬على‭ ‬استبداله‭ ‬بآية‭ ‬الله‭ ‬الخميني‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬إيواؤه‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬العاصمة‭ ‬الفرنسية‭.‬

لقد‭ ‬تعرّض‭ ‬العرب‭ ‬للخداع‭ ‬والتلاعب‭ ‬والخيانة،‭ ‬واجتاحت‭ ‬الجيوش‭ ‬الأجنبية‭ ‬أرضهم‭ ‬واحتلّتها‭ ‬وعاثت‭ ‬فيها‭ ‬خراباً‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬تُعرَض‭ ‬الكنوز‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني؛‭ ‬وقد‭ ‬قام‭ ‬جنود‭ ‬أمريكيون‭ ‬بسرقة‭ ‬تحف‭ ‬فنية‭ ‬قيّمة‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬وبيعها‭ ‬إلى‭ ‬جهات‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬هواة‭ ‬الجمع‭. ‬لم‭ ‬يتحرّك‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬لمنع‭ ‬تنظيم‭ "‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭" ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬التراث‭ ‬السوري‭ ‬في‭ ‬تدمر‭ ‬عن‭ ‬سابق‭ ‬تصوّر‭ ‬وتصميم‭.‬

لقد‭ ‬ساهمت‭ ‬النزاعات‭ ‬والانقسامات‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬في‭ ‬تدفّق‭ ‬تريليونات‭ ‬الدولارات‭ ‬إلى‭ ‬المجمع‭ ‬الصناعي‭ ‬العسكري‭ ‬والمصارف‭ ‬التي‭ ‬تموّل‭ ‬الحروب‭. ‬وتشاء‭ ‬سخرية‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬الحماية‭ ‬لدى‭ ‬القوى‭ ‬نفسها‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬محنته،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ترصّ‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬صفوفها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أعداء‭ ‬مشتركين‭.‬

يُمضي‭ ‬أوباما‭ ‬أسابيعه‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭. ‬ليس‭ ‬إرثه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وشمال‭ ‬أفريقيا‭ ‬مدعاةً‭ ‬للفخر،‭ ‬ولن‭ ‬نرى‭ ‬عيوناً‭ ‬دامعة‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬عندما‭ ‬يلوّح‭ ‬مودِّعاً‭ ‬ويهمّ‭ ‬بمغادرة‭ ‬جادة‭ ‬بنسلفانيا‭. ‬لكن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يساوي‭ ‬64‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬هو‭ ‬الآتي‭: ‬هل‭ ‬سيكون‭ ‬خلفه‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬أفضل‭ ‬منه؟‭ ‬الجواب‭ ‬مجهول‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬

لقد‭ ‬أطلق‭ ‬ترامب‭ ‬مواقف‭ ‬صاخبة‭. ‬فقد‭ ‬أعلن‭ ‬معارضته‭ ‬لاجتياح‭ ‬العراق،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مزاعم‭ ‬تؤكّد‭ ‬العكس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬لكنه‭ ‬أعرب‭ ‬عن‭ ‬تحفظات‭. ‬وفي‭ ‬الموضوع‭ ‬الليبي،‭ ‬تقلّب‭ ‬ترامب‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭. ‬فقد‭ ‬أعلن‭ ‬عام‭ ‬2011‭: "‬علينا‭ ‬ردع‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭"‬،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭. ‬وبعدها،‭ ‬انتقد‭ ‬إدارة‭ ‬أوباما‭ ‬على‭ ‬تدخلها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭. ‬بما‭ ‬أن‭ ‬ترامب‭ ‬تنقصه‭ ‬الخبرة،‭ ‬غالب‭ ‬الظن‭ ‬أنه‭ ‬سيعير‭ ‬آذاناً‭ ‬صاغية‭ ‬لمستشاريه‭ ‬وكبار‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬إدارته‭. ‬وبعدما‭ ‬وقع‭ ‬اختياره‭ ‬على‭ ‬جيمس‭ "‬ماد‭ ‬دوغ‭" ‬ماتيس،‭ ‬مسؤول‭ ‬القيادة‭ ‬المركزية‭ ‬الأمريكية‭ ‬سابقاً‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬حملته‭ ‬على‭ ‬بغداد،‭ ‬لتسلّم‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬اختياره‭ ‬الفتنانت‭ ‬جنرال‭ ‬المتقاعد‭ ‬مايكل‭ ‬فلين‭ ‬المعروف‭ ‬بكرهه‭ ‬للإسلام‭ ‬والذي‭ ‬يصفه‭ ‬زملاؤه‭ ‬السابقون‭ ‬بـ‭"‬المضطرب‭ ‬عقلياً‭"‬،‭ ‬لتولّي‭ ‬منصب‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬العتيدة،‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬سوى‭ ‬الترقّب‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬يخبّئه‭ ‬المستقبل‭.‬

 
تعليق
الرجاء المحافظة على تعليقاتك ضمن قواعد الموقع. يرجي العلم انه يتم حذف أي تعليق يحتوي على أي روابط كدعاية لمواقع آخرى. لن يتم عرض البريد الإلكتروني ولكنه مطلوب لتأكيد مشاركتم.
المزيد من المقالات بقلم