الثلاثاء، 23 أبريل 2024

مواجهة التطرف المتصاعد في أوروبا

بقلم مشاعل جوهر

© Shutterstock

شكّلت مسيرة الوحدة التي شهدتها باريس إبان الاعتداءات، لحظة مفصلية لأنها أرست سابقة في مواجهة التطرف. فقد شارك رؤساء الدول من مختلف أنحاء العالم في مسيرة السلام، وبينهم وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد بن سلطان آل نهيان، تأكيداً لتضامن العالم الإسلامي مع فرنسا.

في حين أن شعار التضامن الرسمي كان "أنا شارلي" (Je Suis Charlie) في تحيةٍ إلى الضحايا الاثني عشر الذين لقوا مصرعهم في مكاتب أسبوعية "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة، حرصت فرنسا على عدم ربط هذا الاعتداء المشين على البشرية بالجالية المسلمة لديها. في الواقع، كانت بطولة الشرطي أحمد مرابط الذي ضحى بحياته ولقي مصرعه إلى جانب العاملين في أسبوعية "شارلي إيبدو"، موضع تقدير واسع. فقد رفع عدد كبير من المشاركين في المسيرة من أجل السلام، والذي بلغ عددهم 1.6 مليون نسمة، لافتات كُتِب عليها "أنا أحمد" (Je Suis Ahmed).

كما أن منح الجنسية الفرنسية للاسانا باثيلي الذي أنقذ الرهائن خلال الاعتداء الدموي على متجر لبيع الأطعمة اليهودية، خير دليل على إقرار فرنسا بأنه لا يمكن أبداً تصوير الإرهاب بأنه يمثّل الإسلام.

على الرغم من ذلك، يُنظَر أكثر فأكثر بعين الشك إلى الجاليات المسلمة، الأمر الذي يؤدّي في معظم الأحيان إلى إدانة المسلمين ككل مع العلم بأن غالبيتهم الساحقة مسالمة ومنتجة. وقد شكّلت مدينة درسدن الألمانية نموذجاً عن صعود رهاب الإسلام أو ما يُعرَف بالإسلاموفوبيا في أوروبا في الآونة الأخيرة، مع تزايد شعبية المجموعات اليمينية المناهضة للإسلام مثل Pegida، ما يؤشّر إلى بداية استقطاب شديد ومظلم في المجتمع.

وصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الهجوم بالـ"مقيت"، وشاركت في تجمّع للمسلمين في العاصمة برلين لترويج التسامح، وتوجيه رسالة قوية في مواجهة صعود الحركة المناهضة للإسلام في ألمانيا. وقد صرّحت: "لا مكان للكراهية والعنصرية والتطرف في هذه البلاد. يقوم بلدنا على الديمقراطية والتسامح والانفتاح على العالم".

وفي المملكة المتحدة، تعهّد ديفيد كاميرون بالعمل عن كثب مع المسلمين من أجل التصدّي #للتطرف. ووعد أيضاً بتطبيق تشريعات جديدة لمكافحة الإرهاب، بما يتيح لأجهزة الاستخبارات التنصّت على الاتصالات المشفّرة للأشخاص الذين يُشتبَه بضلوعهم في أعمال إرهابية من أجل الحؤول دون تكرار وقوع اعتداءات شبيهة بهجوم باريس.

يجب ألا تتبدد روح الوحدة التي أحيتها أحداث فرنسا: ينبغي على العالم الإسلامي أن يستثمر هذا الزخم من أجل الرد بطريقة حاسمة ومستدامة على أعمال العنف المشينة. أصدر مسجد باريس الكبير بياناً أدان فيه بشدّة الهجوم على "أسبوعية شارلي إيبدو"، وهذا ما فعله أيضاً قادة وأكاديميون إسلاميون ومؤسسات إسلامية من مختلف أنحاء العالم بما في ذلك جامعة الأزهر وجامعة الدول العربية. وتتحدث التقارير بوتيرة مقلقة عن إحباط القوى الأمنية الفرنسية العديد من الهجمات التي يجري التخطيط لها، ما يزيد من حدة التشنجات في بيئة تعاني أصلاً من التوتر.

على ضوء الهجمات السابقة في مدريد ولندن، تُبرِز هذه النزعات المقلقة الحاجة إلى أن يبادر العالم الإسلامي إلى رص صفوفه لإطلاق حملة قوية ومكثّفة من أجل ترويج رسالة السلام والتسامح والانسجام بين الأديان في مختلف أنحاء العالم. لم يعد بإمكان القادة العالميين وصنّاع السياسات العمل في صوامع منعزلة، بل ينبغي عليهم أن يجتمعوا معاً لتطوير استراتيجية شاملة من أجل الحوار بين الأديان، عبر استخدام مجموعة من المنابر والوسائل، منها المؤتمرات الدولية وورش العمل ومواقع التواصل الاجتماعي. يجب معالجة المخاوف والمفاهيم الخاطئة التي تحيط بالإسلام. ويجب في شكل خاص أن يبتعد الإعلام الرقمي والمطبوع عن ترويج الخطاب المليء بالكراهية الذي تبثّه أقلية متطرفة لا تمثّل أحداً، ويتحوّل بدلاً من ذلك نحو تسليط الضوء على الأكثرية التي تشكّل جزءاً من التراث الثقافي الغني في أوروبا.

يتعيّن على الفقهاء الإسلاميين أن يساعدوا صنّاع السياسات الأوروبيين على التمييز بين القيم الإسلامية الأصيلة والبروباغندا الإرهابية. علاوةً على ذلك، يجب ألا يتحوّل ضحايا الإرهاب، وهم كثر، في العالم الإسلامي إلى إحصاءات تُنسى بسهولة فيما يبقى هؤلاء الهدف الأساسي للعنف المتطرف.

يستطيع المسلمون في أوروبا، عبر تسليط الضوء على الطابع الكوني المتأصّل في الإسلام، أن يؤدّوا دوراً حيوياً في كبح موجة العداء المتزايد للإسلام بما في ذلك تحديد أسباب التشدد ومعالجتها.

ورد في القرآن الكريم: "يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". (آية 13، سورة الحجرات) بإمكان قادة الإسلام أن يمهّدوا الطريق من أجل تحقيق الاندماج والانسجام بين الجاليات المختلفة في أوروبا، بما يؤدّي إلى تثبيت دعائم الديناميكية والطاقة والابتكار والتنوع.

كان لموضوع الانسجام بين الأديان صدى كبير في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي اختتم أعماله للتو في دافوس. فقد اعتبر الحاخام ديفيد روزن، المدير الدولي للشؤون الدينية في اللجنة اليهودية الأمريكية، في الكلمة التي ألقاها في المنتدى، أنه ليس للعنف الإرهابي الأخير أي أساس ديني: "الدين هو في شكل أساسي وسيلة للارتقاء بالبشرية". وقد ردّد نائب الرئيس الأمريكي جون كيري كلاماً مماثلاً: "لا مجال للتفرقة المذهبية. لا مجال لعداء السامية أو رهاب الإسلام".

يسلّط الصحافي الحائز على جائزة أورويل والمحلل السياسي، أناتول ليفن، الضوء على صعوبة الاندماج الاقتصادي لا سيما في خضم الركود الحالي: "بغية تعزيز دمج المسلمين، يجب استحداث فرص وظيفية أفضل بكثير، من جملة أمور أخرى. لكنه أمر صعب للغاية نظراً إلى ركود الاقتصادات الغربية وقيام الدول بتسليم السلطة الاقتصادية إلى الاتحاد الأوروبي والأسواق الدولية".

لكن على الرغم من التحديات الاقتصادية الهائلة، بإمكان الشباب المسلم في أوروبا أن يؤدّي دوراً أساسياً في تطوير رؤية واسعة النطاق للمستقبل. يشرح تيموثي وينتر، مدير دراسات علم اللاهوت في جامعة كامبريدج، كيف يمثّل التغيير الحالي في أوروبا فرصة لا تُقدَّر بثمن: "على ضوء التراجع المستمر في الخلافات الإقليمية، واستبدالها باصطفافات جديدة بالاستناد إلى الاقتناع السياسي والخيارات الواسعة والمتزايدة في ما يختص بنمط الحياة، مقرونةً بحرية التنقل التي تضمنها معاهدة أمستردام، يستطيع الإسلام أن يقدّم نفسه بسهولة كخيط عابر للأوطان في نسيج الواقع الأوروبي المتغيِّر والمتوسِّع".
لا يجوز أن يُسمَح #للتطرف بالسيطرة على رواية الإسلام المعاصر. ففي حين أن مستقبل أوروبا على المحك، وفيما يواصل الاتحاد الأوروبي معركته كي يتمكّن هذا الكيان الهش الجديد من الاستمرار والتطور، ينبغي على القادة المسلمين أن ينتهزوا الفرصة من أجل المساعدة على إعادة رسم مستقبل .
 

تعليق
الرجاء المحافظة على تعليقاتك ضمن قواعد الموقع. يرجي العلم انه يتم حذف أي تعليق يحتوي على أي روابط كدعاية لمواقع آخرى. لن يتم عرض البريد الإلكتروني ولكنه مطلوب لتأكيد مشاركتم.
المزيد من المقالات بقلم