دائماً ما تفاخر دول الغرب بكون مبدأي حرية الحديث وحرية التعبير
مكونين جوهريين لأنظمتها الديمقراطية. كما يؤمن السواد الأعظم من
مواطني هذه الدول بأنهم يتمتعون بالفعل بهذه الحقوق. غير أن واقع
الحال هو أن لا شيء يمكن له أن يكون أكثر بعداً عن الحقيقة من ذلك.
إذ أن كل الدول الغربية تقريباً قد وضعت قيوداً على ممارسة الحق في
حرية الحديث إذا كانت نتيجته هي تحريض الغير على ارتكاب أعمال غير
قانونية أو إذا كان يؤدي لشعور بعض أطياف المجتمع بإساءة بالغة.
في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن تعليق الحق الدستوري في حرية
الحديث إذا كان من المحتمل أن يؤدي إلى التحريض على عمل غير قانوني
وشيك. وفي بريطانيا يعتبر تمجيد الإرهاب جريمة. أما في ألمانيا
وفرنسا والنمسا فيعتبر إنكار الهولوكست جريمة خطيرة يمكن أن تزج
بمرتكبها في السجن.
وفي النمسا والدنمارك والنرويج وفنلندا وألمانيا واليونان وأيرلندا
وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وهولندا وبعض الولايات الأمريكية توجد
قوانين ضد التجديف. كما أن لدى معظم دول الغرب طرقها لإخراس
إعلامها إذا ما خشيت الحكومات من حدوث تسريبات محرجة لها وتوؤثر
على قضايا الأمن القومي.
إن حرية التعبير المطلقة ما هي إلا وهم. وفيما يتمتع معظمنا بدرجات
متفاوتة منها، فهي تعتبر ببساطة حالة مثالية غير موجودة مالم يكن
لأحدنا القدرة على الانعزالية ليعيش منفرداً على قمة جبل أو غنياً
بما يكفي ليشتري لنفسه جزيرة ويعيش عليها. أما أولئك الذين يتعين
عليهم أن يعيشوا في مجتمعات ذات تركيبات معقدة فعليهم إدراك أن
ممارسة حرية التعبير من قبل إنسان ما يمكن أن تكون مسيئة لإنسان
آخر أو مؤذية لناس آخرين.
وإن كنتم لا تصدقون ما أقول فليجرب أحدكم أن يصرخ "حريق" في صالة
سينما أو مسرح مكتظة في الولايات المتحدة ولينظر ما سيحدث. وإن كنت
ستجرب أنصحك أولاً بأن تتأكد أولاً من وجود ما يكفي من المال لديك
لدفع كفالة للإفراج عنك. هناك دخل أحدهم السجن بسبب نكتة عن الرئيس
فيما منع آخرون من ركوب الطائران لأنهم يرتدون قمصاناً تحمل عبارات
مناوئة للحرب.
ومع ذلك، لسبب غير واضح، تقدم هولندا والدنمارك حرية مطلقة
للمتزمتين المناوئين للإسلام لمهاجمة الدين الإسلامي والنبي محمد
صلى الله عليه وسلم في الصحافة والأفلام السينمائية باسم حرية
التعبير.
وقبل بث فيلم معاد للإسلام على الإنترنت أنتجه النائب في البرلمان
الهولندي غيرت فيلدرز، رفعت الحكومة الهولندية حالة التأهب في
البلاد ضد عمل إرهابي محتمل وعبرت عن مخاوفها على سلامة قواتها
العاملة في أفعانستان وأمن وسلامة فيلدرز وأعضاء مجلس الوزراء.
وأحس وزير الخارجية الهولندي بمخاوف شديدة على المصالح السياسية
والاقتصادية لبلاده مما جعله يجتمع مع سفراء ثلاثين دولة إسلامية
لشرح موقف بلاده: رفض مضمون الفيلم مع مساندة حق فيلدرز في ممارسة
حرية التعبير.
كما شرح الوزير الهولندي لهؤلاء السفراء أن هولندا حتى لو أرادت
منع بث الفيلم فإنها لن تستطيع ذلك بموجب القوانين السارية في
البلاد. غير أن ذهه مزاعم مثيرة للجدل باعتبار أن هولندا لديها
قواناً ساري المفعول ضد التجديف وهو القانون الذي تحاول الحكومة
الهولندية التخلص منه وعدم تطبيقه بدلاً من إحيائه.
كما أن المادة 137 من القانون الجزائي الهولندي تحظر التشهير
العنصري والتحريض على الكراهية والإهانات العلنية التي تستهدف
التمييز على أساس عنصري أو غيره. والحقيقة هي أن الحكومة الهولندية
فيما لو أرادت منع بث الفيلم لكانت استطاعت فعل ذلك ولكن مع مواجهة
بعض التحديات والمصاعب القانونية.
كما يصعب على الكثيرين في العالم، والمسلمين على وجه التحديد، فهم
السبب الذي يجعل كلاً من الدنمارك وهولندا تتعامل مع حرية التعبير
وكأنها قدس الأقداس حتى لو كانت هذه الحرية تعني تهدياً لأمنيهما
القوميين واقتصاديهما
وتهدياً لمكانتيهما في العالم الإسلامي.
وعلى سبيل المثال اضطر متجر دنماركي شهير في القاهرة لإلغاء كلمة
"دنماركي" من اسمه وشعاره فيما تزعم مديرته الدنماركية الآن أنعا
سويدية حين يسألها أحدهم عن جنسيتها. كما أصبحت الزبدة والأجبان
الدنماركية سلعة نادرة الوجود في المتاجر المصرية. وأظن أن هذه
الظاهرة موجودة بدرجة أو أخرى في كل الدول العربية.
أنا لا أعني فيما أقول أنني لا أتفهم أو حتى أتعاطف مع أولئك
المدافعين عن حرية التعبير في المجتمعات الديمقراطية المنفتحة.
ولكن ما أريد قوله هو إن كان الحق في ممارسة حرية التعبير هي
المعيار المتبع حقاً فيجب أن يكون هذا الحق مطبقاً على كل قضية دون
أي تمييز أو شروط. غير أن ما يحدث هو أن هذا المبدأ يستخدم بطريقة
انتقائية ولا غرابة في أن المسلمين يعتقدون أنه يستخدم ضدهم فقط.
وعل ما يبدو فقد أصبح بحكم المؤكد الآن أن بعض العنصريين
والمتزمتين التافهين في الدول الليبرالية الغربية يتلطون وراء مبدأ
حرية الحديث وحرية التعبير وهم يضلون الطريق عمداً ويعتدون على
حساسيات أناس آخرين أو يحرضون على الحقد الديني والعنصري.
وما هو أسوأ من ذلك، هو أن الحكومات توفر حماية كاملة للمحرضين على
الحقد والكراهية هؤلاء على الرغم من "أعمالهم" تشعل صواعق ردود فعل
عالمية مضرة بمصالح رعايا هذه الحكومات وغالباً ما توفر أرضية
لإفراز مزيد من الجماعات المتطرفة الداعية للانتقام.
حفاظاً على الموضوعية في الحكم، أجبرت نفسي على مشاهدة فيلم "فتنة"
على الإنترنت الذي أنتجه فيلدرز. وعلى نحو ما توقعت، كان عملاً
محشواً بالحقد الزعاف ومصمماً لتوسيع حدة الصدع الذي يفصل بين
المسلمين وغيرهم من المواطنين في هولندا. ومن حسن الحظ أن القيلم
لم يصل سوى لقدر ضئيل من المشاهدين لأن وسائل الإعلام ودور السينما
الهولندية رفضت عرض الفيلم وانتهى بكونه عملاً مهملاً دون رد فعل
حتى الآن.
وليس واضحاً حتى الآن ذلك الذي يدفع فيلدرز لصب كل هذا السم
المعادي للإسلام في فيلم من 15 دقيقة، غير المتزمتين عادة يسلكون
هذا السلوك أو ذاك لأنهم قادرون على فعل ذلك.
لنأخذ على سبيل المثال الأخصائية النفسية الأمريكية من أصل سوري
وفاء سلطان التي وضعتها مجلة تايمز الأمريكية في قائمة أكثر 100
شخصية تأثيراً من "الذين تعمل قوتهم أو موهبتهم أو أخلاقياتهم على
تغيير العالم." وتؤكد تايمز على أنها اختارت وفاء سلطان في هذه
القائمة نتيجة "استعدادها للتعبير علناً عن آرائها الانتقادية
للتشدد الإسلامي وهي الآراء التي يتفق معها مسلمون آخرون لكن
نادراً ما يتم التعبير عنها علناً."
وفي الحقيقة فإن وفاء سلطان ليست ناقدة لفسلام فحسب، بل قالت
للكاتب اليميني المتطرف ديفيد هوروفيتز إنها قررت "أن تحارب
الإسلام، وليس الإسلام السياسي ولا الإسلام الجهادي ولا الإسلام
المتطرف ولا الإسلام الوهابي فحسب، بل الإسلام نفسه."
وقد استغلت دعوة للظهور في برنامج الاتجاه المعاكس على قناة
الجزيرة الذي يقدمه فيصل القاسم لتصب عبره دعايتها المناوئة
للإسلام ولتهين المسلمين على الرغم من أنها كانت مسلمة قبل عام
1979 عندما قتل متطرفون أستاذها الجامعي.
وفاء سلطان اليوم هي الفتاة المدللة للحاقدين على الإسلام وقد وجه
لها المؤتمر اليهودي الأمريكي دعوة لزيارة القدس. وقد أثارت
مشاركتها تلك آلاف المسلمين لإرسال رسائل إلكترونية غاضبة نتيجة
شعورهم بالصدمة من هجومها على دينهم وتاريخهم. ورأى العديدون منهم
أنه كان من الواجب قطع البث وعدم السماح لها بقول ما قالته. غير
أني عدت وشاهدت البرنامج مرة أخرى ولم أجد في وفاء سلطان أكثر من
امرأة تثير الشفقة على ما تشعر به من حقد يأكل نفسها وإحساس
بالدونية.
بالطبع هناك من يقول إن فيصل القاسم كان على صواب حين سمح لها أن
تقول ما قالته بغض النظر عن قدر الأذى الذي سببته لضيف الحلقة
الآخر إبراهيم الخولي والمشاهدين. لكن يجب التنويه هنا أن المسلمين
حين يتعرض الإسلام للإساءة لا يستطيعون أن يأخذوا جانب اللطف في
الرد لأن الإسلام يحترم كل الأديان والمعتقدات.
ليس هناك من مسلم يتخيل ولو مجرد الخيال إمكانية مسبة نبي أو رسول
آخر. ليس هناك من مسلم يقبل إنتاج فيلم يهين المسيحية أو اليهودية
ولا يوجد من مسلم يقبل رسم صور كاريكاتورية لأنبياء يحترمهم اليهود
أو المسيحيون، أو من يسمونهم إخوتهم، أهل الكتاب.
إن حرية التعبير يجب ألا تعتبر أبداً وكأنها رخصة لإيذاء وإهانة
الآخرين الذين يشعرون بالإساءة في الصميم حين يسخر أحد من
معتقداتهم ويشهر بنبيهم. والمسلمون لا يطلبون وضع حدود على حرية
التعبير لدى غيرهم. وإنما يريدون قدراً من الاحترام واللباقة حين
الحديث عنهم وعن دينهم. وهذا يفترض به ألا يكون مطلباً كبيراً حتى
في أكثر الديمقراطيات ديمقراطية.
|