عندما تعرض جورج غالاوي، النائب البريطاني المثير للجدل، للاتهام
من قبل لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي عام 2005 بأنه تربح من برنامج
النفط مقابل الغذاء الذي أدارته الأمم المتحدة، ما كان منه إلا أن
تحدى تلك الوجوه الجامدة مباشرة بهذه الكلمات:"انظروا إلى فضيحة
النفط مقابل الغذاء الحقيقية. انظروا إلى 14 شهراً مضت كانت بغداد
فيها تحت سيطرتكم، أول 14 شهراً حين اختفت 8.8 مليارات دولار تحت
أنظاركم."
|
ربما يكون اتهام غالاوي هذا للغزو لم يلق آذاناً صاغية، ولكن
تحقيقاً لبرنامج بانوراما أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية وبثته في
يونيو الماضي أكد أن هذا الاتهام لم يكن فارغاً. بل إنه مضى إلى
أبعد مما تخيله غالاوي بكثير حيث وصف ما حدث بأنه أضخم سرقة في
زماننا المعاصر. لم تكن الأموال التي اختفت من العراق دون أثر 8.89
مليار دولار فحسب، بل 23 مليار دولار كاملة! في البرنامج قدمت لنا
جين كوربين من بي بي سي رؤوس أقلام عن مصير هذا المبلغ الضخم الذي
يقارب إجمالي الناتج المحلي لدولة مثل لبنان.
وتبدأ كوربين القصة بمتربحي الحرب سكوت كاستر ومايك باتلز وهما
جمهوريان وضابطان سابقان. ويعتقد أن سكوت هو من أحفاد الجنرال
كاستر الشهير في تاريخ الجيش الأمريكي أما باتلز فكان قد ترشح
للكونغرس وعمل سابقاً مع قناة فوكس نيوز التلفزيونية.
قرر الاثنان معاً أن هناك فرصة لتحقيق الثورة في العراق وأسسا شركة
أمنية باسم كاسترباتلز. ووصل الاثنان إلى العراق مفلسين تماماً بكل
معنى الكلمة، بل إن باتلز استقرض قيمة بطاقة السفر جواً من الأردن
إلى بغداد. ولكن حالما وصلا بغداد، وبفضل ترخيص خاص من البيت
الأبيض، استطاعا أن يتجولا في المدينة وأن يدخلا المنطقة الخضراء
بصفة مدنيين. وقبل ذلك حصلا على عقد كبير بقيمة 100 مليون دولار
لتوفير خدمات الأمن للطائرات المدنية في مطار بغداد الدولي.
كان الاثنان يطالبان بالدفع نقداً بداية كل شهر إضافة إلى الدفعة
الأولى مقدماً التي بلغت 2 مليون دولار سددت بأوراق فئة 100 دولار
ورزم كل منها 100 ألف دولار. غير أن هذه المبالغ لم تكن كافية
لإشباع نهم الاثنين، حيث يقول البرنامج أنهما وضعا أيديهما على
الرافعات الشوكية المهجورة للخطوط العراقية المطلية بالأبيض
والأخضر وصبغاها بألوان جديدة ثم أجراها للحكومة الأمريكية مقابل
20 ألف دولار شهرياً للرافعة الواحدة.
وحاول الاثنان إغواء مسؤول إف بي آي السابق بوب إساكسون الذي عيناه
كأحد مقاوليهما من الباطن واستدراجه لمشاركتهما في هذا الأنشطة
الفاسدة، حيث يقول إنهما طلبا منه مساعدتهما في تأسيس شركات وهمية
في جزر كايمان ليستخدماها في تمرير نفقاتهما ومضاعفتها. غير أن
إساكسون رفض المشاركة في هذا العمل غير الشرعي. والنتيجة هي أن
الاثنين طرداه من الشركة تحت تهديد السلاح وأمراه أن يتدبر أمر
عودته إلى أمريكا بنفسه دون أن يعطوه معداته أو أمواله النقدية
التي استثمرها. وأخيراً تم الكشف عن هذه السرقة حين نسي كاستر
وباتلز حقيبة في مكتب أحد مسؤولي سلطة التحالف المؤقتة كانت تحتوي
على قوائم مالية بتفاصيل فواتيرهما المزيفة. واعندا استدعي الاثنان
لتفسير نقلهما للعملة العراقية الجديدة بشاحنات قديمة ذات مكابح
متعطلة كانوا قد اشتروها بسعر بخس من السوق المحلي. وأكدت سلطة
التحالف المؤقتة أن الاثنين عرضا أرواح الغير للخطر حين كانت تتوقف
على جوانب الطرقات لتعطلها وهي محملة بما يعادل 15 مليون دولار من
العملة العراقية.
كان دليل إدانة كاستر وباتلز دامغاً غير أن إدارة بوش رفضت
تقديمهما للمحاكمة وعمدت إلى قطع الطريق أمام رفع دعوى قضائية
عليهما من قبل من سربوا هذه المعلومات بذريعة أن كاسترباتلز لم
تختلس من الحكومة الأمريكية لأن سلطة التحالف المؤقتة كانت كياناً
مستقلاً عن الحكومة. ولكن الدعوى القضائية حينها تقدمت ورد الاثنان
بأن كل ما فعلاه كان بموافقة الحكومة الأمريكية. وفي النهاية قرر
المحلفون إدانتهما باختلاس أموال دافعي الضرائب الأمريكيين.
فضيحة كاسترباتلز لم تكن سوى قمة جبل الجليد وما خفي كان أعظم.
ويتحدث المحامي الديمقراطي المناوئ للحرب ألان غريسون والذي يترافع
عن مجموعة من مسربي المعلومات الذين فضحوا "قصصاً من الفساد وسوء
الإدارة توقف شعر الرأس." غير أن محامي الحكومة كما يقول تمكنوا من
فرض أوامر كتمان على 70 قضية تورط فيها بعض من كبار الأسماء في
المؤسسة الأمريكية. غير أن بعضاً من التسريبات التي تمثل قضايا
خاصة لا يمكن فرض أوامر الكتمان عليها.
بارينغتون غودفري وهو مدقق مالي كان مسؤولاً عن تدقيق حسابات شركة
معروفة تعاقدت على إطعام الجنود الأمريكيين هو أحد مسربي المعلومات
هؤلاء. يقول غودفري "طلبوا مني ألا أهتم بأمر التكلفة إن كانت
تنافسية أم لا" لأن معظم العقود في العراق كانت على مبدأ التكلفة
وأكثر، أي كلما زاد التدفق النقدي كلما زادت أرباح الشركة.
ولكن حين قام غودفري بإحصاء عدد القوات في قاعدة عسكرية في الموصل
وقارن النتيجة مع فواتير الشركة أصيب بالذهول. كانت الشركة تتقاضى
أثمان آلاف من الوجبات التي لم تكن توردها أصلاً للقوات وبما يصل
إلى ما بين 10 و15 مليون دولار خلال الشهور القليلة التي أمضاها
غودفري في العراق.
بل اكتشف أن الشركة كانت ترسل شاحناتها فارغة على طرقات العراق
باعتبار أن عداد السيارة كلما سجل مسافات أطول كلما حققت الشركة
إيرادات أكبر. كما اكتشف مدققو البنتاغون أن الشركة الأم لتلك
الشركة قد تقاضت 108 ملايين دولار قيمة إمدادات ووقود للشاحنات لم
يكن لها أي مبرر.
وكشف البرنامج التوثيقي القصة المؤسفة لشركة بارسون الأمريكية
العملاقة للإنشاءات والتي قبضت 186 مليون دولار لبناء 150 عيادة
طبية في العراق ولم تبن منها سوى ست عيادات فقط.
ويعرض البرنامج لحالة شركة نورثستار التي أسسها زوجان يعملان
مصممان للمطابخ هم توماس هويل وزوجته وسجلا عنوانها الرسمي في
بيتهما الخاص قرب سان دييغو. وكان من المفترض أن تكون مهمة
نورثستار الإشراف على نقل صناديق العملة العراقية. ورغم أن الزوجين
لم يكونا محاسبان قانونيان كما يتطلب العقد، فقد اختيرت شركتهما
دون أي منافسة ودون أن يعرف أحد السبب.
غير أن الأمريكيين من أفراد وشركات لم يكونوا هم وحدهم المتورطون
في هذا الفساد. إذ يتحدث برنامج بانوراما عن رجل أعمال عراقي صغير
يسكن في أكتون بلندن جرى اختياره ليصبح وزيراً للدفاع في العراق
دون أن تكون له أي خبرة في هذا المجال والذي لم يضيع أي وقت أبداً
في فتح أبواب الوزارة أمام محسوبيه.
وأخذ هؤلاء يستخدمون أموال وزارة الدفاع لشراء طائرة وسيارات إسعاف
وناقلات جند مدرعة من بولندا والتي كانت إما متعطلة لدى وصولها أو
لم تشتغل أبداً. ودفع هؤلاء مقابل هذه المشتريات أبخس الأسعار
وزعموا أنهم اشتروا أفضل العتاد. وبالطبع فقد ذهب الفارق بين السعر
الاسم والحقيقي إلى جيوبهم وهو ما يقارب 1.2 مليار دولار. واليوم
هناك مذكرة لدى الإنتربول للقبض على هذا الشخص.
وحتى اليوم لم يدخل أحد السجن على جرائم النهب والسرقة وسوء
الإدارة هذه. ويقول الجمهوري هنري واكسمان الذي يترأس لجنة مكلفة
بالتحقيق في هذه المزاعم:
"العراقيون محرومون من الكهرباء معظم الوقت وحتى في بغداد. وهم
أيضاً محرومون من ماء الشرب الصحي ومع ذلك فإن قضية الأموال التي
تم تبديدها أو سرقتها أو سوء إدارتها سافرة وضخمة جداً إلى الحد
الذي يجعلها أضخم حالة تربح من وراء الحروب في التاريخ."
|