اسمياً أصبح هناك رئيس جديد في الكريملين، غير أن الجزم بمن له
الكلمة الفصل في إدارة روسيا ما زال موضوعاً خاضعاً للأخذ والرد.
هل يتمتع الرئيس الروسي الجديد ديمتري ميدفيديف بالرئاسة قولاً
وفعلاً أم أن رئيسه السابق فلاديمير بوتين الذي أعطاه ميدفيديف
منصب رئاسة الوزراء ما يزال الشخص الممسك بزمام السلطة فعلاً؟
يعتقد بعض المحللين أن الثنائي ميدفيديف وبوتين يخططان لاقتسام
السلطة على مدى السنوات العشرين المقبلة عبر التناوب بين رئاسة
الدولة ورئاسة الحكومة. بينما يعتقد آخرون أن ميدفيديف ربما يمر في
مرحلة التحول من كونه رجل بوتين ليكون صاحب مستقلاً بنفسه وصاحب
قراره. ولكن الاختلاف بين الاثنين حتى الآن ما يزال مقتصراً على
الشكل وليس المضمون.
فلاديمير بوتين، الذي يصفه البعض بأنه الزعيم الأكثر شعبية في
تاريخ روسيا، يصعب توقع ما سيفعله. وبعد أن اضطر للتخلي عن الرئاسة
نتيجة القيود الدرستورية التي التي تمنع شغل منصب الرئاسة لأكثر من
دورتين رئاسيتين متعاقبتين، فإن لا شيء يؤكد بأنه تخلى عن السلطة
فعلاً. ومع ذلك وأياً كانت الأهداف والنوايا فإن الرئيس ميدفيديف
هو من يمسك بزمام السلطة ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين يشغل المنصب
الثاني في الدولة.
حين وجه صحفي متشكك من لوموند إلى بوتين السؤال الذي يريد الجميع
إجابة عنه وهو "من هو الزعيم الفعلي لروسيا؟" أجاب الرئيس الروسي
السابق بجزم ووضوح قائلاً: "ليس هناك أي غموض إزاء هذا الأمر. إنه
الرئيس دون شك وهو صاحب الكلمة الفصل والرئيس اليوم هو السيد
ميدفيديف. روسيا جمهورية رئاسية. ونحن لن نعدل الدور المركزي لرئيس
الدولة في نظامنا السياسي. إنني موظف متواضع مهمته تتعلق بالشؤون
الاقتصادية والاجتماعية."
غير أن مهمة الموظف المتواضع ليست هي بالتأكيد التي تناسب السيد
بوتين وهي المهمة التي أصبحت موضعاً للتساؤلات حين استقبله الرئيس
الفرنسي فرانسوا ساركوزي وكأنه ما يزال رئيساً للدولة رغم كونه قد
أصبح يشغل رئاسة الحكومة. ويتساءل بعض المراقبين عما إذا كان بوتين
سيواصل العادة المتبعة عند رؤساء الحكومات برفع تقرير أسبوعي
للرئيس وعما إذا كان سيعلق صورة الرئيس ميدفيديف على الجدار في
مكتبه الجديد. ونقل عن بوتين قوله "لا أحتاج لأن أنحني لصورة. هناك
طرق أخرى لبناء علاقة عمل."
أما عندما سؤل ميدفيديف عما إذا كان بوتين رئيس وزراء انتقالي أم
أنه سيبقى في رئاسة الحكومة طوال رئاسته أجاب بدبلومساسية قائلاً
"مثلما تعرفون أعتقد أن هناك تحالفاً جيداً بيننا يمكننا من حل
المشكلات المعقدة التي تواجه روسيا." وأضاف "سنبقى نعمل معاً ما
دامت الأهداف التي نطمح لإنجازها تتطلب ذلك."
نظرياً يمكن لميدفيديف أن يعزل بوتين من منصب رئاسة الحكومة متى
أراد ذلك، لكنه إن فعل فسيتعين عليه أن يبرر ذلك أمام الرأي العام
الذي ما يزال مخلصاً في ولائه لبوتين إلى حد كبير وممتناً له على
إدارته للبلاد وإستعادتها لمكانتها كدولة كبرى على الساحة الدولية
وعلى زيادة الناتج الإجمالي القومي للبلاد ستة أضعاف.
على كل ما يزال الوقت مبكراً على ميدفيديف الذي لم يحصل على فرصته
بعد لتأكيد نفسه كرئيس للبلاد، دع عنك إحداث التغيير في السياسات
الرئاسية لسلفه. ورغم أن شخصيته تبدو أكثر دفئاً من سلفه ومظهره
الخارجي أكثر مرونة نوعاً ما، غير أن مواقفه بالنسبة للسياسة
الخارجية ما تزال ملتزمة تماماً بالعهد السابق.
ويبدو أن ميدفيديف يعتمد موقف الانتظار ورؤية ما سيحدث إلى حين
الانتخابات الرئاسية الأمريكية فيما يتعلق بالعلاقات الروسية
الأمريكية التي تعرضت للتوتر خلال السنوات القليلة الأخيرة بفعل
قضايا مثل توسع الأطلسي والاعتراف الأمريكي باستقلال كوسوفو والدرع
الصاروخي الأمريكي الذي تريد واشنطن إقامته في أوروبا .
حتى الآن يحاول المسؤولون الأمريكيون والروس التظاهر بوجود علاقات
ودية بين الطرفين في العلن للاستهلاك الشعبي، غير أن الجميع يعرف
فرص تصالح حقيقي ودائم بينهما آخذة بالتراجع وأن كلاً منهما قد
ارتضى بتبني السلام البارد جداً.
كما أن ميدفيديف ربما لم يفلح في كسب الكثير من الأصدقاء في واشنطن
حينما ألمح إلى إمكانية اعتماد الروبل كعملة بديلة للدولار الضعيف
لاحتياطات المصارف المركزية في روسيا وكومنويلث الدول المستقلة.
وعلى الرغم من أن الاحتياطيات الروسية "ما تزال دولارية في غالبها"
فإن روسيا الآن تستخدم "اليورو عملياً على قدم المساواة مع الدولار
الأمريكي" كما "كما تستخدم بشكل محدود عملات أخرى وعلى وجه التحديد
الجنيه الاسترليني." وعبر الرئيس ميدفيديف عن أسفه لأن "النظام
المالي العالمي برمته معلق على التطورات في منطقة الدولار."
ليس هذا فحسب، بل إن ميدفيديف قال في خطابه أمام منتدى سانت
بطرسبورغ الاقتصادي إن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن الأزمة
المالية العالمية وأن هذا يود في وجه منه إلى "السياسات المالية
المتهورة لأكبر اقتصاد في العالم والتي لم تؤدي فقط إلى فشل
الشركات. إن غالبية سكان الأرض قد أصبحوا أكثر فقراً." وأضاف أن
"الفجوة بين الدور الرسمي لأمريكا في الاقتصاد العالمي وبين
قدراتها الحقيقية كان من الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة."
أما علاقات موسكو مع أوروبا فهي أقل برودة. وقال ميدفيديف لوكالة
رويترز للأنباء في يونيو الماضي إن روسيا تريد تكتلاً قصير الأجل
وملزماً قانونياً مع الاتحاد الأوروبي يؤكد على كون روسيا جزءاً من
أوروبا ويمنع الخلافات السياسية من التأثير على القضايا التجارية
والاقتصادية. وطالما أراد بوتين أن تتمتع روسيا بدور سياسي أكبر
داخل أوروبا، غير أن الاتحاد الأوروبي يخشى من أن روسيا الأكثر قوة
بفضل إيرادات النفط والغاز ستوظف موارد الطاقة الآخذة في تحقيق
مزيد من الأهمية لزيادة نفوذها السياسي والاقتصادي.
أما على الصعيد الداخلي فإن ميدفيديف حريص على تخفيض الضرائب
وتسهيل حيازة الأملاك الخاصة وتقليص الروتين الحكومي ودعم الحريات
الفردية ومكافحة الفساد.
وفيما لا يفصل سوى خط رفيع بين سياسات الرجلين، فإن ميدفيديف
وبوتين يشتركان أيضاً بظروف نشئتهما البسيطة. بوتين هو ابن عامل
مصنع ومجند سابق في البحرية أما ميدفيديف فهو ابن لأستاذين جامعيين
يعيشان في شقة مساحتها أربعين مثراً مربعاً في أحد أحياء بطرسبورغ
الفقيرة (لينينغراد سابقاً). وقال إنه كان يحلم في صغره بأن يكون
لديه ما يكفي لشراء ملابس جينز وتسجيلات فرقتي ديب بيربل وبينك
فلويد.
الرجلان أيضاً متزوجان وأبوان سعيدان بحياتهما العائلية ولديهما
حيوانات مدللة في البيت (بوتين لديه كلب وميدفيديف عنده قطة).
كلاهما خريجان من جامعة لينينغراد الحكومية ولكن التشابه يتوقف عند
هذا الحد. بوتين التحق بجهاز الاستخبارات السوفييتي كي جي بي وترقى
فيه أما حياة ميدفيديف الوظيفية فتنوعت بين التعليم الجامعي والعمل
السياسي إلى أن تم تعيينه رئيساً لمجلس إدارة شركة غازبروم.
وخاض الاثنان الحملة الانتخابية الرئاسية معاً تحت شعار واحد يقول:
"معاً سننتصر." وبفضل شعبية بوتين، كان الفوز بالرئاسة سهلاً
لميدفيديف. غير أن المرحلة الصعبة لم تأت بعد.
هل سيحافظ الاثنان على موقفهما الموحد؟ هل سنشهد ألاعيب السلطة؟
وماذا لو أراد ميدفيديف تغيير السيناريو؟ هل يلعب الاثنان لعبة
تغيير الكراسي، وإن كانوا يفعلون ذلك فمتى سيغيران المقاعد؟
الإجابات عن كل هذه الأسئلة لن تحدد إلا بمرور الوقت وتقلبات
الأيام.
|