وقبل سنوات من اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، قامت فرنسا رسمياً
بضم الجزائر إليها لتصبح مقاطعة فرنسية في أفريقيا. وعلى الرغم من رفض
الشعب الجزائري للإجراء الفرنسي، فقد قامت قوات الاحتلال بتجنيد شباب
الجزائر للقتال دفاعاً عن فرنسا خلال الحرب. إلا أن الفترة التي أعقبت
الحرب كانت أكثر دموية للجزائريين من الحرب نفسها.
كان من الواضح أن فرنسا التي خرجت منتصرة من الحرب، ستأكل وعوداً أطلقتها
بمنح الحرية للجزائريين لو قاتلوا معها. وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى
اندلاع مظاهرات سلمية لأشهر متتالية احتجاجاً على المعاملة السيئة لقوات
الاحتلال بعد الحرب (من الأمثلة الشهيرة على ذلك حصر توزيع الخبر على
الأوروبيين فقط، أما غيرهم فحصتهم كانت من خبز الشعير). وكان أكثر من
15.000 شخص قد تظاهروا في مستغانم دونما حادث يذكر. لكن ذلك سرعان ما
تغير عندما قام الجيش الفرنسي بارتكاب مذبحة مريعة في شوارع بلدة سطيف
وجوارها علة مدى أيام قليلة رداً على المظاهرات السلمية.
ففي الثامن من مايو 1945، وهو اليوم الذي اختاره الحلفاء للاحتفال
بانتصارهم على النازية، تجمع آلاف الجزائريين قرب أحد مساجد البلدة
للقيام بمسيرة سلمية سبق لمنظميها أن حصلوا على موافقة السلطات عليها.
لكن القوات الفرنسية التي جيء بها من قسنطينة لم تمهل الجماهير كثيراً،
حيث فتحات عليها نيران رشاشاتها.
وخلال دقائق كانت الجثث تملأ شوارع الحي. وتحدث الشهود عن مناظر مرعبة. فقد
كان مرتزقة الفرقة الأجنبية الشهيرة بقسوتها في الجيش الفرنسي يمسكون
الأطفال من أرجلهم ويضربون برؤوسهم الجدران والصخور، ويبقرون بطون
الحوامل ويلقون بالقنابل اليدوية في مداخن المنازل لقتل قاطنيها. كما
تعرض من حاولوا دفن القتلى إلى مجازر مماثلة بنيران الرشاشات وسط
المقابر.
وتشير السجلات العامة إلى أن المستوطنين الأوروبيين أفزعتهم بادرة التظاهر
إلى درجة أنهم كانوا يشجعون جنودهم على قتل الجميع. وهكذا توسعت المذبحة
على مدى الأيام القليلة التالية، فقصفت المزارع القرى القريبة بالمدفعية،
فيما استخدم الطيران لدك كل ما لم يطله مدى المدفعية. وقد سقط في تلك
المجزرة الشنعاء أكثر من 45.000 شهيد جزائري.
ومن الروايات التي تبين بشاعة الحدث، أن عقيداً مسؤولاً عن دفن القتلى تعرض
للوم بسبب بطئه في العمل، فأجاب قائلاً "أنتم تقتلون بأسرع من طاقتنا على
الدفن."!!
كانت لمذبحة سطيف وغيرها من الأحداث المماثلة أبلغ الأثر في تلقين
الجزائريين درساً بالغ الأهمية: الفرنسيون لن يمنحوهم حريتهم أبداً إذا
لم يقاتلوا من أجلها.
في ذلك المناخ العام ولدت جميلة بو حيرد وترعرعت في عائلة متوسطة الحال.
وقد تلقت تعليمها في مدرسة فرنسية، لكنها سرعان ما انضمت لحركة المقاومة
السرية عن طريق شقيقها. وكانت آنذاك فتاة باهرة الجمال وجريئة للغاية.
وقد عملت خلال أعوام انطلاقة الثورة كمسؤولة ارتباط مع القائد سعدي ياصف.
كما أن تقارير غير مؤكدة تتحدث عن أنها تولت لبعض الوقت مسؤولية العمليات
المسلحة في العاصمة، الجزائر.
كانت الثورة الجزائرية 1954-1965 واحدة من أقوى حركات النضال ضد الاستعمار،
والتي اجتاحت في تلك العقود آسيا وأفريقيا. وقد انطلقن العملية الأولى
للثورة في الأول من نوفمبر 1954، عندما هاجم فدائيو جبهة التحرير الوطني
قوة جزائرية في جبال الأوراس الشرقية. وكانت المعنويات الفرنسية آنذاك
تعاني الكثير بعد الهزيمة المذلة التي لحقت بقواتهم في معركة ديان بيان
فو الشهيرة، والتي خطت سطور نهاية الاحتلال الفرنسي للهند الصينية،
وبالتالي نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية.
وقد لقي الكفاح المسلح دعماً كبيراً، خصوصاً في المناطق الريفية وبين
القرويين. أما في المدن، فإن الأحياء الشعبية مثل حي القصبة في العاصمة،
وفرت دعماً ممتازاً للمقاتلين، وأصبحت مناطق شبه محظور دخولها على قوات
الاحتلال. وكانت المظاهرات العارمة تندلع في المدن الجزائرية حيث كان
المتظاهرون يتصدون لقوات الاحتلال بصدورهم العارية غير عابئين بالموت.
ألقى الفرنسيون بكل قوتهم في وجه الثورة، واستخدموا كامل جيشهم المزود
بأحدث ما لدى حلف الناتو من سلاح. وقد شارك ما ينوف على 400.000 جندي
فرنسي في المعارك على مدى سبع سنوات ونصف السنة، بالإضافة إلى أكثر من
ثلثي سلاح الجو ونصف البحرية. كما استخدم الفرنسيون آخر ما أبدعوه في
مجال مكافحة النضال الوطني. ففضلاً عن الدبابات والطائرات، والحصار
البحري، استخدموا الأسيجة المكهربة لإقفال الحدود مع تونس والمغرب،
وأقاموا شبكات متصلة في شتى الأنحاء لعزل واصطياد المناضلين، ومسحوا عن
وجه الأرض أكثر من 8.000 قرية في إطار سياسة الأرض المحروقة. ولم يقصروا
في اللجوء إلى شتى السبل المعقدة والشيطانية بما فيها الإرهاب والتجسس
والتعذيب لقمع الثورة.
قدم الشعب الجزائري ضحايا بالآلاف يومياً، وبلغ عدد شهدائه أكثر من مليون،
كما أن ما يزيد عن مليونين ونصف فقدوا منازلهم. وامتلأت شوارع المدن
بأكثر من 300.000 طفل يتيم، فيما اضطر 300.000 جزائري للفرار إلى المغرب
وتونس حيث شكلوا هناك قواعد إضافية ترفد الثورة. |